اللوحة للفنان: عمرو عيسى |
كانت الكاميرا في يدي، وعلى كتفي حقيبة بها مُعدّات التصوير، وفي جيبي هاتف شقيقتي الجديد الذي سيُسرق بعد قليل، وفي انتظاري خازوق كبير؛ كنت حينها فوق كوبري المشاة أمام جامعة الأزهر، يوم 28 ديسمبر 2013؛ وعلى بعد نحو 100 متر من كوبري المشاة، كانت هناك حشود من العساكر وسيارات الشرطة، فعلمت أن المظاهرات بالقرب من هنا، في بلادنا الجميلة تتجمع العساكر بسرعة البرق عندما يشاع أن هناك شبهة تظاهر في مكان ما، أما لو كانت شبهة جريمة؛ فهذه مسألة أخرى..
على مد البصر، ظهر طالبان في المشهد، فانتظرت اقترابهما بعدما أشار أحد العساكر نحوهما بخبث على طريقة «قابِل وقعّد» شعرت أن شيئًا سيحدث، وأنهما في خطر، وأنا أيضًا،
بدأت التصوير بالفيديو، وصورت حشود العساكر وهي تهرول بعصيها في في اتجاه الطالبين، رغم أنهما لا يملكان سوى أوراق ربما سيطلعون عليها قبل الامتحان، فقد كان أول أيام الامتحانات في الجامعة (ومن المعلوم أن طلبة مصر تؤمن بأن المراجعة يجب أن تتم قبل دخول لجنة الامتحانات ب 10 ثواني لشيء لا يعلمه إلا الله والطلبة) حاصر العساكر الطالبين من كل جانب؛ أبرز أحدهما شيئًا ما لا بد أنه «كارنيه» جامعة الأزهر؛ مسكين لا يعلم أنه في مثل هذه المواقف لا ينجو إلا من يبرز كارنيه الأمن الوطني، أو وزارة الدفاع، أو صورة عبد الفتاح السيسي.
انهال العساكر على الطالبين بعصيهم ضربًا فوقع الطالبان على الأرض، وحاولا إبعاد العصي عن وجوههما، ويخيّل لي أن العساكر لم يتوقفوا عن ضربهما إلا بعد أن توقفت أيديهم من فرط التعب وبدأوا يمارسون هوايتهم المفضلة «السّحل» وأظهروا فيها مواهب تفوقت على مواهب «محمد أبو تريكة» في تمرير الكرة. سحلوهما على الأرض حتى «بوكس» الشرطة حيث يجلس كبيرهم واضعًا قدمًا فوق الأخرى؛ وكأنه ملك نجحت عساكره في اصطياد جواسيس من ممكلة أخرى حاولوا اختراق مملكته، وثّق أحد العساكر أيدي الطالبين من الخلف، وأرجلهما، ثم انتهى بهما الحال في "البوكس"وكأنهما خراف ستُذبح بعد قليل. «بالفعل ذُبح مستقبلهما، فقد حكم عليهما بالسجن سبعة أعوام والمراقبة الأمنية 5 أعوام أخرى» لا لشيء سوى أنهما لم يفعلا شيء!
أغلقت الكاميرا، وحاولت المضي نحو المظاهرة، وبعدما تخطيت "سلم المشاة"، استوقفني مخبر بزي مدني، وسألني عن هويتي، فأبرزتها وأخبرته أني صحفي.
- أهلا وسهلًا، ممكن تكلم الباشا. هكذا قال.
ذهبت إلى كبيرهم ولما أخبرته أني صحفي طلب الكاميرا التي في حوزتي، فأخرجتها، ويبدو أنه كان سيتركني وحالي لأنه لم يستطع استخدام الكاميرا؛ لكن أحد الضباط الصغار ظهر فجأة؛ ونظر إلى شعري الطويل، ولحيتي الكثيفة؛ وكنت حينها أشبه اينشتاين مع الفرق أن شعري ولحيتي لونهما أسود، وهو عالم، وأنا أصبت بالجنون مما يحدث في هذا البلد.
أمسك الضابط الصغير الكاميرا، وبحث فيها، كنت متوقعًا ألا ينجح في التعامل معها؛ لكن منذ متى تتحق توقعاتي؟!
أثناء محاولة الضابط الصغير العثور على أي شئ ينتقم به من شعري الطويل ولحيتي الكثيفة، سألني كبيرهم:
= لماذا لا تصور أولاد العاهرة -يقصد الطلاب- وهم يحرقون الجامعة؟!
- جئت متأخرًا، ولم أصل للحريق بعد، ولكني سأفعل.
قاطعني الضابط الصغير، وعلى وجهه ابتسامة المنتصر على كائن ضعيف هزمته أتفه أمور الحياة.
= أنظر يا باشا، ابن الوسخة كان بيصورنا. هكذا قال الصغير الذي نجح على عكس توقعاتي، واستطاع العثور على فيديو يدينهم، ويظهرهم أمام الرأي العام يعتقلون المستقبل متلبسًا أثناء ذهابه للجامعة.
أخرج «الصغير» كارت الذاكرة من الكاميرا وكسره بأسنانه؛ ثم انهال عليّ ضربًا هو ومن يأتمرون بأمره من العساكر؛ ولكن الضرب لم يكن بنفس القوة التي ضُرب بها الطالبين، ربما راعوا عملي في الصحافة، وربما تعبوا من ضرب من قبض عليهم قبلي، وربما صدفة.
وضعوني في "البوكس" مع من صورتهما منذ قليل وهما يُسحلان. نظرت لهما وكأني أعاتبهما، وكدت أقول لهما أنهما السبب؛ لكنهما في الحقيقة لم يرتكبا أي جريمة، فقلت:
- متقلقوش كله هيبقى تمام.
نظر لي أحدهم حاقدًا، لأنني لست موثق اليدين مثلهما، ضحكت على نظرته بصوت عال، ضحكت على أنه يحسدني لأنني سجين ولكن لست مكبل اليدين مثله.
لما ضحكت نهرني الشاويش ذو الشارب الكث الذي تشبه ملامحه ملامح الفقراء؛ وأمرني بأن ألتزم الصمت، حتى لا يسمعني الضابط ويأمره بأن يضربني مرة أخرى؛ وهو بالطبع سيخضع للأوامر حتى لو أمره أن يغتصب كلب في الشارع، فالتزمت الصمت، والتزم الجميع الصمت؛. في "البوكس" وخارجه.