خطة الهروب من الميكروباص



مصر العربية


لسماع المقال اضغط هنا


أقف وحيدًا على محور 26 يوليو، في انتظار سيارة ميكروباص تنقلني إلى ميدان التحرير؛ المواصلات كانت نادرة لأننا كنا في يوم السبت، والساعة قد تخطت التاسعة ليلًا؛ فانتظرت نصف ساعة تقريبًا. أقف بجوار السلم المجاور لترعة المريوطية. وعلى بعد نحو 200 متر، يقف موتوسيكل صيني ويصوب ضوءه في عيني، ثم جاء أحدهم وركب خلف سائق الموتوسيكل؛ لا أعلم من أين أتى؟ فنحن على المحور؛ لا توجد مساكن، ولا شركات، ولا مصانع.


إذًا لا بد أن الذي ركب خلف سائق الموتوسيكل معه سلاح كان يخبئه في مكان ما من أجل قتلي؛ ربما خرطوش سيخترق جسدي ويفترش به فلا يستطع الأطباء إخراجه مرة أخرى؛ ربما مطواة ستمزق عروق يدي أويغرسها في رقبتي.. ربما.. ربما.. يا إلهي إنهما قادمين في اتجاهي.. سائق الموتوسيكل ينظر لي بغيظ؛ فأجدني أتجه نحو السلم استعدادًا للفرار؛ فأنا أعلم أني أستطيع الجري جيدًا؛ يقولون أن الجري نصف الجدعنة؛ وأحيانًا الجدعنة كلها.


أقف على السلم في انتظار الموتوسيكل الصيني الذي جاء من أجل سرقة متعلقاتي التي لا تستحق السرقة؛ ففي حوزتي 50 جنيه؛ بحساب الدولار سنحذف الصفر لتصبح 5؛ وموبايل قديم؛ بالإضافة إلى جاكت ربما يبيعوه في سوق الملابس المستخدمة بـ 100 جنيه! الأغبياء سيقتلوني من أجل ثروة وهمية؛ سيتخلصون من جثتي في ترعة المريوطية كي لا يجدني أحدهم؛ وكي لا أدلي بأوصافهم للشرطة، التي لن تتفرغ لمثل هذه الأمور التافهة، فهناك نشطاء سياسيين، وهناك إخوان، وهناك اشتراكيين ثوريين يجب أن تتفرغ لهم الشرطة. اقترب الموتوسيكل جدًا، وازدادت سرعته جدًا، وازداد خوفي جدًا، واتسعت عيناي، واحمرّ وجهي.


مر الموتسكل بجواري وكأني عدم، وكأني لست موجودا. الحمد لله أني ما زلت على قيد الحياة، تركوني وحالي؛ ربما خافوا من شجاعتي النادرة؛ فأنا كنت مستعدًا للجري بكل شجاعة. أتنفس الهواء الذي كان قدم انعدم بسبب الخوف.


أخيرًا تصل سيارة ميكروباص ياباني، وتقف أمامي فأسأل سائقها: التحرير يا ريس؟


يهز رأسه من دون رد. ربما صدّق أنه "ريّس" بالفعل. جلست على المقعد المجاور لباب الميكروباص، وعلى الجانب الآخر يجلس رجل يبدو لي أنه غريب الأطوار، جزمته مدببة من الأمام، تذكرني بجزمة علاء الدين، له ربع شنب تركه تحت أنفه حتى تظن أنك ترى فنانًا في فيلم أبيض وأسود؛ ينظر لي أحيانًا ثم ينظر إلى حذائه مرة أخرى، فلاحظ أنني نظرت إلى حذائه كثيرًا وأحاول ألا أنظر مرة أخرى.


الميكروباص ليس به سوى السائق، وفتاة بجواره تمضغ اللبان بشكل محترف؛ وتنظر إلى الهاتف حينًا وإلى السائق حينًا آخر، والرجل صاحب الحذاء الطويل، وخلفي رجلان، وفي المقعد الأخير شاب وفتاة عشرينية.


أسأل السائق عن ثمن الأجرة؛ فيرد بقرف، وكأن الكلام يؤلمه: 2 جنيه.


أدفع الـ 2 جنيه، فيأخذها السائق بكبرياء حتى يشعرك بأنه.. بأنه.. يا نهار أسود؛ إنه مباحث؟.. لقد وقعت في الفخ يا غبي، هكذا قلت لنفسي. أحدّق به، ثم أنظر بشكل سريع للرجل الذي بجواري؛ فينظر لي متعجبًا أو متوعدًا؛ ثم ينظر إلى حذاء علاء الدين الذي يرتديه، وينظر لي مرة أخرى. ألتفت وراءي سريعًا.. آه أنهم وضعوا فتاتان في السيارة كي لا أشك فيهم.. الأولى بجوار السائق، والأخرى في المقعد الخلفي، إنهم أغبياء، لقد كشفتهم سريعًا.
في أثناء اندماجي لعمل خطة الهروب من الميكروباص، يصرخ السائق أو ضابط المباحث: اللي مدفعش أجرة ورا.


آه.. إنهم سيبدأون بمخططهم، أنا الآن في تعداد المختفين قسريًا، فكيف يسأل السائق عن الذين لم يدفعوا الأجرة؛ وأنا آخر من ركبت الميكروباص؟


يتحرك الشخص الذي خلفي؛ يا إلهي؛ سيضربني بعصا على رأسي كي أشعر بإغماءة. ويتعاملون معي بسهولة. إذًا أنها عصابة تخطف الأجانب؛ لا يا غبي أنت لست أجنبيا. إذًا إنها عصابة تخطف المواطنين؟ أنت لست مواطنا. إذًا إنها عصابة تخطف المصريين؟ فلو كانوا مباحث لوضعوا الكلابش في يدي. سيتاجرون في أعضائي. أنظر إلى أحد أعضائي وأتخيل ما سيحدث؛ قرأت على الإنترنت تحذيرًا من أحد سكان مدينة 6 اكتوبر؛ يقول فيه أن عصابة كادت أن تخطفه وتتاجر في أعضائه، ولكن الله نجاه بأعجوبة، اللهم نجني بأعجوبة.


يضع الرجل يده على كتفي، فأستعد للمقاومة، سأقفز من الباب.


- لوسمحت اديله الأجرة.


= أجرة يا كذاب؟ أنت من رجال العصابة، تريد أن تقتلني، أو تسرقني. هكذا قلت لنفسي.


أخذت منه الأجرة وفرائصي ترتعد، أنتظر لحظة الفرار بأعضائي، أو القتل. أُعطي السائق أو ضابط المباحث، أو تاجر الأعضاء البشرية الأجرة.


فينظر لي الرجل الجالس بجواري بشكل مفاجئ. ثم ينظر إلى حذاء علاء الدين في قدمه. كدت أن أقول له "ارحمني بجزمة علاء الدين دي" ولكني خفت أن يكون زعيمهم، فملامحه ماكرة.


اقترب الميكروباص من ميدان لبنان، سأخبر تاجر الأعضاء البشرية الذي يدّعي أنه سائق بأني أريد النزول هنا أنا وأعضائي؛ وإن أبى، سأفتح الباب وأرمي نفسي على الأرض. وليحدث ما يحدث.


ولكن المفاجآة أن تاجر الأعضاء البشرية لم يمر من ميدان لبنان؛ رغم أن الكراسي فارغة.


أصرخ في السائق: انت مش هتعدي من ميدان لبنان يا اسطى عشان تحمّل؟


يضحك السائق بصوتٍ عالِ؛ وينفخ دخان سيجارته على الآنسة التي تمضغ اللبان بجواره. ويقول: حرام عليك يا شيخ، ميدان لبنان ايه بس؟ الدنيا فاضية خالص، بُص.


ويشير بإصبعه تجاه الميدان، وأثناء إشاراته يلمس جزءًا من صدر الآنسة التي تمضغ اللبان، ويعتذر لها: لا مؤاخذة يا أوسازة.


أتخيّل كل السيناريوهات المحتملة، ويمر أمام عيني فيديو وكأني عادل إمام، في فيلم "سلام يا صاحبي" ولكن صاحبي ليس موجودا. سأقضي عليهم جميعًا.


يصرخ أحد الجالسين خلفي: على جنب يا اسطى.
تقف السيارة بجوار أحد الرجال الذي يرتدون جلباب وعمامة، وفي وجهه شنب يستطيع أن ينظف به شوارع القاهرة من فرط غلاظته وطوله؛ إنه يشبه المخبرين، أو قطاعي الطرق، أو يشبه أي شئ جاء خصيصًا لأجلي.


يتحرك الثلاثة الذين يجلسون خلفي في اتجاه النزول، وتظل الفتاة مكانها. الجبناء يتجهون نحوي، بالتأكيد لن ينزل هؤلاء الثلاثة. المحتمل أن يصعد الرجل صاحب الشنب ويضع سيخًا في بطني؛ فتسيل دمائي على أرض السيارة، ويجلس الثلاثة على جثتي ليداروها إلى أن تصل السيارة للمكان الذي سيقطعون فيه أعضائي.


ينزل الثلاثة من السيارة دون أن يمسني أحدهم.. ويسأل الرجل صاحب الشنب الغليظ: رمسيس يا اسطى؟
- تحرير، تحرير، تحرير.


ثم تتحرك السيارة، ويشير أحدهم لها، إنه ملتحِ، يسأل السائق: تحرير؟
فيقول له السائق: اركب أنا منتظرك من زمان.


أرتعد أكثر، فيقول الملتحي للسائق: اقف عند السور الحديد، في اخوة جايين. إذًا إنها جماعة جهادية، ستقتلني ظنًا منها أنني كافر، وأن ما سيفعلونه بي جهاد في سبيل الله. يركب معنا رجلين ملتحيين، قيقول السائق: أنا مستنيكم من زمان.


فيضحك الملتحي الذي قرر الجلوس بجواري وبجوار صاحب جزمة علاء الدين حتى يستطيع إمساكي من أجل أن يذبحني إخوانه في الخلف، ويقول للسائق: ونحن أيضًا ننتظرك يا طيب، مفيش مواصلات خالص.


إذًا إنها كلمة السر، "مفيش مواصلات خالص".. بعدها سيشهر الشيخ سيفه ويقطع رقبتي، وتعلن جماعة أنصار بيت المقدس أنها قتلت صحفيا مصريا وقطعت رأسه بالقاهرة.. بالتأكيد سيفرح صاحب حذاء علاء الدين لأني تعجبت من جزمته.


ينظر الشيخ نحوي مرتين وفي الثالثة يقول لي: أريد أن أنصحك نصيحة واحدة.
أردد قول "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" بصوت عالِ، فلربما يتراجع عندما يسمعني.


- اتفضل يا شيخ.
- هذه الأشياء التي ترتديها في يدك، حرام. اسمها حظاظات، لا يوجد في ديننا شئ اسمه حظ.
- شكرًا يا شيخ على النصيحة، سأخلعها عندما أصل.
- بارك الله فيك.


ينظر السائق إلى الفتاة التي تمضغ اللبان وهي تتصفح الهاتف، ويقول:
- لو سمحتي يا قمر، ممكن أسألك سؤال؟


لا بد أن ما قاله إشارة للهجوم، لأننا اقتربنا من التحرير، ويجب أن يهجم الإخوة. أو ربما يحاول إشغالي بحوراه، فتنزل على رأسي شومة؛ أو تطعنني سكين؛ أو يخترق جسدي الرصاص؛ أو يوثقني أحدهم بالكلابش؛ أو تطير رقبتي بسيف، أو تنزل على رأسي جزمة علاء الدين.


أسمع حواره وأنا في غاية الاستعداد لكل المؤامرات.


تبتسم الفتاة التي تمضغ اللبان وترد على سؤاله: ممكن.


أنا اشتركت في وصلة النت، بس مش عارف أكتب اللي أنا بدور عليه فين؟ في الشريط الأزرق اللي فوق ولا أنا حمار؟


- آه.
أه ايه؟ أنا حمار، ههههههه الله يسامحك يا أوسازة


ترد الفتاة بضحكة "رقيعة" لا أسمعها سوى في الأفلام، ربما أعجبت به، أو ربما تحاول إغرائي حتي تشغلني عن هدفي الأساسي "خطة الهروب من الميكروباص".
- لا والله مش قصدي.


أصل أنا بفتح المتصفح، أحيانًا بيبقى بطئ أوي، وأحيانا بيبقى صاروخ ع الآخر. في اعتقادي أنه نظر إلى عضو من أعضاء جسدها عندما نطق بكلمة "صاروخ" وأكمل كلامه: أعمل ايه بقى؟


- اعمل له تحديث.


- تحديث ايه احنا لاقيين ناكل، أنا هشيل النت خالص.


يصل الميكروباص إلى ميدان عبد المنعم رياض بالتحرير؛ فأنزل من الميكروباص، وأشعر بفرحة، وأتنفس الهواء؛ أنظر ورائي فأجد السائق يأخذ رقم الفتاة؛ ربما ليسألها عن سرعة الانترنت، أو عن أشياء أخرى.

اقرأ أيضًا

نحن نكرهكم.. ونحب الوطن

توثيقًا للكذب


شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة