زنزانة مظلمة
وليلها حالك كليل جزيرة جرينلاند الواقعة بين القطب الشمالي والمحيط الأطلنطي، ففي
هذه الجزيرة لا تشرق الشمس إلا شهرًا واحدًا في السنة. أما زنزانة الإيراد فلا
تشرق فيها الشمس أبدًا. والماء لا يعلم لهذه الزنزانة طريق، وعليك عند
دخولها أن تتعامل كإنسان بدائي يحاول اكتشاف الأشياء بنفسه، مع الفرق أن الكائن
البدائي كان يمكنه الاعتماد على موارد الطبيعة، والتمتع برؤية البحار والطيور
والأشجار، أما في هذه الزنزانة القميئة لا طعام سوى الأرز المطهي بزيت الخروع كي
لا يهيج السجناء جنسيًا، لا زيارات، لا تريّض، لا ملابس غير ملابس التحقيق
البيضاء.
اسمها زنزانة الإيراد
الجديد، وهي زنزانة خاصة بالسجناء الجدد، لفصلهم عن القدامى، كي لا يتمكن
القدامى من مساعدة الجدد في أي شئ، وكي يشعر السجناء الجدد بأن الحياة هنا في
"زنزانة الإيراد الجديد" مستحيلة، كي يشعروا بفضل النعمة التي أنعم
مأمور السجن بها عليهم عند انتقالهم لزنزانة عادية!
كنا
نحن (الإيراد) لم أفهم معنى كلمة إيراد في البداية، وكنت أتعجب عندما يقول الشاويش
بلهجة ساخرة "إخرس يا إيراد منك له" وعلمت بعدها أنهم يقصدون بها المعنى
الحقيقي للكلمة؛ فـ كلمة إيراد تعني "غلّة أو محصول" ونحن محصول السجن،
أو السجانين، وسنحقق لعساكره ومخبريه مكاسب مالية ضخمة فيما بعد، عندما يريد
أهالينا رؤيتنا يدفعون المال، وعندما يريدون إدخال الملابس أو السجائر أو الطعام
أو الجرائد أو الراديو أو المنظفات الشخصية أو أغطية الشتاء، كل شيء بحساب، ويظل
الحساب الأكبر عند دخول الجرائد والكتب والراديو، وأي شيء به معلومات، حتى لو كانت
معلومات خاطئة أو كاذبة.
كان العنبر خاليًا إلّا
من الطابق الأرضي الذي تكدس به مساجين جنائيين، وهم أتعس المساجين في هذا المكان،
فوقهم أربعة طوابق من العنابر، وكل هذه العنابر تصب صرفها الصحي في الدور الأرضي
الذي يحتجز فيه الجنائيين، وكثيرًا كانت تغرق عنابرهم بمياه المجاري، مما يجعلهم
يعيشون كصراصير في ماسورة صرف صحي.
وهذا العنبر الذي دخلناه
كان قد تم إخلائه بالكامل بعد مجزرة سيارة ترحيلات أبو زعبل الشهيرة،
في أغسطس 2013، والتي راح ضحيتها 37 سجينًا مصريًا في سيارة الترحيلات،
مختنقين بالغاز أو مقتولين على أيدي الأمن، بعد احتجاز 6 ساعات كاملة في سيارة
الترحيلات في فصل الصيف.
وكنا نحن أول سجناء ندخل
هذا العنبر الذي أُطلق عليه بعد ذلك "عنبر الطلاب" بعد أن تركه ضحايا
سيارة الترحيلات وذهبوا إلى قبورهم. ولا أدري حينها لم كانت تطاردني فكرة أن كل
مكان هنا مر منه أحد هؤلاء الضحايا، كان مجرد التفكير في أن سجينًا ممن قتلوا في
سيارة الترحيلات كان ينام مكاني يجعل جسدي يرتعد بشكل لا إرادي.
أذكر أننا
كنا نحو 30 معتقل في زنزانة الإيراد، وكانت ماسورة المجاري قد أغرقت الزنزانة ونحن
لا نملك ما يمكننا به تنظيف الزنزانة، حتى ملابسنا قد أحرقوها واستبدلوها ببدلة
التحقيق الميري، وحينها كنا في أوج الشتاء، فلا يمكن أن يتخلى أحدنا عن قطعة من
ملابسه، وخاصة أننا سننام على البُرش؛ وعندما طلبنا أدوات لتنظيف الزنزانة ضحك
مأمور السجن ساخرًا:
= انتوا فاكرين نفسكم فى البيت يا روح أمك انت
وهو؟! "في الحقيقة لم يقل يا روح أمك " لو جيت الصبح ملقتش الزنزانة دي
أنظف منكم هيتعملكم تشريفة تانية.
وكانت
هناك مشكلة أخرى، في سقف الزنزانة كانت توجد مروحة هوائية تعمل بسرعة هائلة ولا
يوجد مفتاح كهربائي لغلقها، وكدنا نموت من البرد، تجرّأ أحدنا وسأل المأمور عن
كيفية إغلاقها، وأعتقد أنها كانت حركة ساذجة، فكيف نسأله عن المروحة بعدما كان رده
على المجاري التي طفحت في الزنزانة "يا روح أمك انت وهو".
= لا يوجد كهربائي في هذا
الوقت، إتصرفوا، ولو نطق أحدكم بكلمة أخرى سأخيط فمه كما يفعل الجنائيين فى
أنفسهم.
إذا الجنائيون يخيطون فمهم على
سبيل أنه قطعة قماش ستتحول إلى قميص بأيدي خياط بارع!.. إنها فرصة سعيدة جدًا!.
كان المأمور صادقًا، فعدد قليل من المساجين الجنائيين كانوا يعلنون إضرابهم عن
الطعام بـ "تخييط أفواههم"!
كنا في مأزقين؛ كيف ننظف
الزنزانة؟ وكيف نوقف المروحة؟!
كان الظلام الدامس
يكسو لون الزنزانة بالسواد، والرؤية معدومة، ولكن السماء واضحة من شبابيك حديدية
أعلى الزنزانة، لن أكتب لك عن السماء وجمالها ونجومها وغيره من الكلام الشعري
الأدبي الجميل، لأنني حينها نظرت إلى السماء وتمنيت ألا نراها وأن نغطي هذه
الشبابيك اللعينة بأي شي حتى لا يأكلنا برد الشتاء، فالشبابيك كانت تتصارع على
جائزة أفضل شباك يدخل هواء باردًا.
بدأت
طاقة الشباب تظهر، ووقف أحد الطلاب على كتف أطول من فينا، وأخذ يتحسس الجدران
باحثًا عن سلك الكهرباء الموصل للمروحة، ووصل لعلبة كهرباء في الأعلى بها أسلاك
كثيرة، ونجح في تعطيل الكهرباء بيده، فانطفأت المروحة، وهذا كان الاحتفال الأول
لهذه المجموعة في السجن.
أما
مياه المجارى فقد تخلى أحدنا عن قطعة من ملابسه الداخلية ولم يكن أمامنا سوى تنظيف
الزنزانة بتلك القطعة وبالفعل نجحنا في ذلك، ولم نحتفل لأننا كدنا أن ننسى طعم
النوم الذي لم نذقه منذ أكثر من 4 أيام. نمنا رغم برد يناير الشديد.
فُتح باب
الزنزانة في الصباح وكنا نائمين كالموتى، واستيقظنا على صوت أحد المخبرين وكان
اسمه وائل، يلعن أبائنا وأمهاتنا وأجدادنا ويلقي علينا أوامره:
= عندما يُفتح باب الزنزانة، على الجميع أن يقف
فورًا ويضع يديه خلف ظهره وينظر إلى الحائط.
ثم استدعى
أحدنا لاستلام التعيين والجراية؛ وسجن أبو زعبل، يعد من أسوأ السجون التي تقدم
طعامًا غير أدمى للسجناء.
وقتها
لم نجد أي شيء نضع فيه طعامنا وتبرع أحد المساجين الجنائيين بشنطة بلاستيك لنضع
فيها الأرز والعدس معًا.
أكلنا بأيدينا وكأننا في
مجاعة إيرلندا الكبرى التي حدثت بعد أن أصاب مرض قاتل محاصيل البطاطا، وكان ثلث
الشعب الإيرلندي يعتمد على زراعة البطاطا كمصدر رئيسي للرزق آنذاك؛ أكلنا بشكل
بدائي وكأننا في أول الخلق؛ كان كل منا يضع يده في الكيس البلاستيك وهو يغمض عينيه
من كآبة المنظر، فكنا نأكل بأيدينا ولم نتساءل عن نوعية الطعام. عدا واحد، كنت
أنظر إليه وأراه متبسمًا ويشعر بالرضا، فيشعرني بأنه يأكل خروفًا مشويًا على
الفحم، وأعتقد أنه كان يتمنى ألّا نأكل جميعًا حتى يأكل هو كل الطعام.