احبسوا الفقراء مع فتاتي المترو.. وعيشوا في العاصمة الإدارية


منطقة سجون مصرية (REUTERS)


جاءني محصل الكهرباء، فاستقبلته باحترام، ولكنه فاجأني بأنه يريد 5 أضعاف الفاتورة الماضية، ولا أعلم كيف تحول احترامي ووقاري إلى أن صارت فتحة فمي أكبر من فم الخليج، نصحني بالاستغناء عن التكييف في الصيف، والسخّان في الشتاء، وتخفيف الإضاءات في كل الأوقات، وكاد أن ينصحني بالانتحار بعدما رأى فتحة فمي المفتوحة من الذهول. قلت له هل أنت متأكد من أن هذه فاتورتي؟ بالطبع هناك شيء خاطئ، لن أسكت عن هذا الخطأ؛ كما أنني لن أتكلم، فأنا وزوجتي فقط نعيش في هذه البيت المتواضع!
نظر لي المحصل بشفقة ممزوجة باستعداد لخوض معركة دامية معي، وقال "إحمد ربنا يا أوستاز، أومال لو بتشحن كارت هتعمل ايه؟!".
لم أدفع طبعًا، وقررت الذهاب إلى شركة الكهرباء كي أخبرهم بأن مخطئون، وأن هذا المبلغ الخرافي سيجعلني مع الشريحة السابعة من الأغنياء وسأدفع أضعافًا مضاعفة. وهذا على اعتبار أن أحدًا من شركة الكهرباء سيهتم لأمري مثلًا، وعلى اعتبار أنني مواطن في وطن ضايع.
كنت أريد أن أهتف في وجه المحصل، يسقط الغلاء، ولكني خشيت على نفسي من الاعتقال؛ ربما يكون هذا المحصّل من شركة فالكون للأمن، لا سيما أن جسده كان ضخمًا على غير عادة المحصلين، كما أن الحكومة قد سربت أخبارًا عن تعاقدها مع الشركة لتحصيل الأموال. أخيرًا قررت الصمت، وسأظل صامتًا حتى لا يأكلني البعبع.

***
في نوفمبر 2015 أخبرنا الرئيس السيسي أن مشكلة الأسعار لم تغب عنه طوال الفترة الماضية، قائلا: "إوعوا تتصوروا أنه يغيب عني ارتفاع الأسعار.. أنا واحد منكم وأعرف كويس الظروف الصعبة للناس، وعارف عايشين إزاي، وإن شاء الله آخر هذا الشهر هتكون الدولة خلصت تدخلها لخفض الأسعار بشكل مناسب، اللي عنده حاجة يصرفها.. فلن نسمح بزيادة الأسعار وهنشوف تحسن ملحوظ إن شاء الله".

بعيدًا عن أننا اقتربنا من الاحتفال بالذكرى الثانية لهذه التصريحات، وبعيدًا عن أن الأسعار ارتفعت إلى حد السماء، وأن المواطن انخفض سعره حتى صار ملتصقًا بالأرض، وأن الحكومة نفسها ترفع أسعار كل السلع الأساسية وفواتير الكهرباء والماء والغاز والبنزين وكل شئ أساسي في المعيشة، وأن هذا الرجل لم يشعر يومًا بأي فقير ولا غلبان كما يدّعي. إلا أنه بعد هذا التصريح مباشرة، لم تسمح قوات الأمن للشعب الفقير بالحديث عن الفقر والغلاء. فأنت لو كتبت عن غلاء الأسعار على وسائل التواصل الاجتماعي سيترقبك رجال الأمن ويقبضون عليك لتختفي قسريًا ويضعوا عصا في مؤخرتك، قبل أن يتهموك بالتحريض على العنف والانتماء لأي جماعة محظورة. ولو كتبت عن الغلاء في موقع إليكتروني سيتهمون الموقع بالتحريض على الإرهاب ويحجبونه عن مصر، حتى لو كان حاصلًا على تراخيص من كل مائة جهة حكومية ويعمل بشكل قانوني. ولو كتبت عن الفقر في جريدة ورقية، قد تُصادر الجريدة، ويتبنى الإعلام التابع للدولة هجومًا حادًا على رئيس تحرير الجريدة ويتحدث عن المؤامرة الكونية على مصر والتي يشارك فيها رئيس الجريدة نفسه، وقد يلقبونك بالصعلوك على الصفحات الأولى من الجرائد.
أما لو تحدثت عن ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة في الشارع أو الجامعة أو العمل أو الأتوبيس أو المترو، فمصيرك محتوم؛ سيُحكم عليك بالسجن 3 سنوات على الأقل، وهذا بالضبط ماحدث مع  "ياسمين محمد و أمل صابر" في مترو الأنفاق.
ففي مساء يوم 7 نوفمبر 2016، قبض  قوات الأمن على ياسمين محمد وأمل صابر من محطة مترو الملك الصالح، بعد أن وشت إحدى المواطنات الشريفات عنهما وأبلغت الأمن أنهما تشتكيان من غلاء المعيشة وتتحدثان عن ارتفاع الأسعار.
في دولة تحترم القانون، لا يمكن اعتقال أحد مواطنيها لأنه تحدث عن غلاء المعيشة وصعوبتها حتى لو تحدث أمام الرئيس نفسه، بل إن الدولة التي تحترم القانون لا يمكنها اعتقال أحدًا لأنه انتقد الرئيس ذاته؛ ولكن في شبه الدولة لا يسمح لك إلا بأن تكون راضيًا بكل القرارات الغبية، ولا يجوز لك أن تتكلم وإلا اتهموك بأنك تحاول خلق مناخ تشاؤمي في البلاد؛ لذا فعليك أن تضحك حتى لو لم تجد سببًا لذلك، اضحك عندما يخبروك بأن كل شيء ضروري قد ارتفع سعره أربعة أضعاف، وعندما يقولون أنهم باعوا الأرض، وعندما لا يحترمون الدستور، وعندما يتعاملون معك على أنك ماكينة أموال يجب أن تفرز أموالًا لهم ليعيشوا هم في رخاء.
لم يتوقف الأمر عند القبض على فتاتي المترو، ولكن وحكمت محكمة جنايات الجيزة، بالسجن 3 سنوات على كل من ياسمين محمد و أمل صابر،  بعد اتهامهما بالتحريض على التظاهر فى محطة مترو السيدة زينب، فى القضية المعروفة إعلاميا بقضية "فتاتي المترو".
وهذه القصة لا تدل إلا على أن كل المجتمع شارك في حبس الفتاتين؛ مواطنة شريفة أبلغت عنهما، وبائع فقير قال أنهما هتفا ضد حكم العسكر، وسائق قطار أوقف القطار للقبض عليهما، ورجال شرطة لم يرحموهما، ونيابة لم تخل سبيلهما، وقضاء لم يرحمهما، وكل ما سبق مسؤول عنه رئيس شبه الدولة، ونحن جميعًا أعطينا له الضوء الأخضر بصمتنا؛ حتى الصحافة التي كتبت عنهما ولم تذكر إلا رواية الأمن ولم تقل أنهما كانتا تتحدثان عن الغلاء، واكتفت بذكر الاتهامات التي وجهتها الدولة "التحريض على التظاهر والانتماء لجماعة محظورة".

***

أزعم أن بعض من يقرأون هذا الكلام قد وقفوا أمام محصل الكهرباء، وفتحوا أفواههم مثلي واعترضوا على سعر الفاتورة الوهمية، ومن بينهم من يريد الحديث والشكوى في كل وسيلة مواصلات وكل شارع وكل مكان عمل، وأن من بين القارئين من يلعن ويسب في الأسعار ليلًا ونهارًا، ومن لا يكفي راتبه الشهري أسبوعًا واحدًا.. لذا على هؤلاء الذي يقمعون الشعب، وعلى هذا الذي يقول أنه منا ويشعر بنا، ثم يُخبرنا بأنه "مش قادر يدينا" أن يعتقلوا كل الفقراء وكل الطبقة المتوسطة التي صارت فقيرة في عهدهم. لأن الجميع يسب لهذه السلطة بآبائها وأجدادها، والجميع قد مسه الغلاء، والجميع يشتكي من قرارت الحكومة التي تتعمد افقار الناس. فاحبسوا الفقراء جميعًا مع فتاتي المترو، وعيشوا وحدكم في العاصمة الإدارية، وأغلقوا على أنفسكم جيدًا.


شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة