جيرافيتي هرم.. وسيارتي عبده موتة !


في الصباح الباكر، وجدت على  جدران منزلنا، شيئا يُفترض أنه جرافيتي، وأنا من هواة رسوم الجرافيتي منذ ظهوره في مصر.. لكن هذا جرافيتي لا علاقة له بالفن، ولا علاقة له بالجرافيتي!

عبارة عن جملة مكتوبة بشكل لا يراعي الجمال، ولا يراعي تكلفة دهان جدران منزلنا المتواضع.. فقد كتب أحدهم على جدران منزلنا: (فرحة هرم يوم الخميس، وهنولع الفرح). وكتب العنوان الذي سيولع فيه الفرح حتى يحتشد الناس.. وهكذا تحول الجيرافيتي من حشد الناس للحصول على حقوقهم من الحكومات الظالمة، إلى حشد الناس لتوليع الفرح.

"هرم" اتخذ قرارًا فرديًا وقرر أن  يجعل على وجهة منزلنا كتابات تجعل جميع المارة يضحكون، أو يبكون على حال جدران منزلنا المسكين، أو يصدرون أصواتًا من أنوفهم لا يصدرها إلا النائمون أو المعترضون، أو تجعلني أتمنى رؤية هذا الهرم لارتكاب أفعال لا داعي لذكرها.

"هرم" قرر ألّا يفرح وحده، وأن يجعل الجميع يفرحون بفرحته، اعتقادًا منه بأن العالم قد ترك الحروب السياسية والاقتصادية والمجازر الدموية والصراعات الانتخابية والطائفية، وطوابير الفول والطعمية، وانتظر فرحه؛ ظن أن الجميع ينتظرون هذه اللحظة الحاسمة "توليع الفرح" حتى يحرقون الفرح معه.. مما دفع "هرم" لأن يترك على كل منزل في حارتنا رسمة جيرافيتي قبيحة؛ ربما لمحاولة أن يثبت لعروسه أنه "شَبَح" مثل الفنان "محمد رمضان" أو "عبده موتة" أو "الأسطورة" شبح  قادر على أن يجعل الجميع يحتفلون بفرحته رغمًا عنهم، وأن يتركوا اسمه مكتوبًا على الجدران لأنهم بالطبع لن يكلفوا أنفسهم شراء "دهان" جديد في ظل هذا الغلاء المتوحش الذي يعاني منه الخلق في فترة ولاية السيسي.

"هرم" يفرح وأهالى المنطقة لم يفرحوا كما كان يظن، ولكنهم سبّوه بأبيه وأمه، ودعت الأمهات على عروسته المسكينة في كل صلاة، وربما أقاموا الليل من أجل أن يطلبوا من الله ألا يمنح عروسته خلفة العيال.
***
أراد الفنان محمد رمضان (الأسطورة / عبده موتة) أن يفعل كما فعل هرم، وأن يُعلن عن فرحته باقتناءه سيارتين فارهتين جديدتين، اعتقادًا منه بأن جمهوره الواسع الذي تعلم منه أشياء كثيرة من أفلامه القبيحة، سيفرح ويبتهج وسينشر القمح على رؤوس الجبال حتى تأكل الطيور وحتى لا يقولون أن في بلاد "عبده موتة" لم يشعر الطير بالفرحة بعد شرائه سيارتين جديدتين فارهتين.

كتب "عبده موتة" على موقعي التواصل الاجتماعي "انستجرام" و"فيس بوك": "الحمد لله.. اشتريت أمس السيارتين الأقرب إلى قلبى، لامبورجينى أفنتادور & رولز رويس جوست، بحب أشارك جمهورى كل اللحظات الحلوة فى حياتى". ونشر صورته مع السيارتين وهو مبتهج كطفل اشترت له أمه سيارة لعبة بريموت كونترول.

بحسب موقع 4 day فإن سيارة "لامبورجيني أفنتادور" هي أحدث سيارة رياضية سوبر أنتجتها الشركة الإيطالية العريقة لامبورجيني، ويطلق عليها لقب الثور الهائج بسبب قوتها الهائلة، وسرعتها الخيالية حيث تعد السيارة الأسرع في العالم؛ ويتراوح سعرها وفقًا للموقع الرسمي للسيارة في المتوسط 500 ألف دولار أميركي، أي ما يعادل 6 ملايين جنيه مصري، وربما أكثر في ظل انخفاض سعر الجنيه، حيث تخطى الدولار الأمريكي في السوق السوداء حاجز الـ 12 جنيهًا.

أما السيارة الثانية فهي سيارة "رولز رويس جوست".. وهي واحدة من أغلى السيارات ثمنًا وأكثرها رفاهية، وهي من إنتاج الشركة الإنجليزية "رولز رويس" ويتراوح سعرها وفق الموقع الرسمي للسيارة في المتوسط 300 ألف دولار أميركي أي حوالي 3.600 مليون جنيه مصري.

***
اعتقد الفنان محمد رمضان "عبده موتة" أن الجماهير ستحتشد في الميادين احتفالًا باقتنائه سيارتين فارهتين وسيشعلون الشماريخ، مثلما اعتقد "هرم" أن أهالى المنطقة سيوزعون الحلوى والشربات احتفالًا بليلة عُرسه.

"هرم" لم يدرك أنه ربما سيدفع ثمن الجدران التي شوهها غاليًا في يوم غير معلوم، وعبده موتة لم يراعِ، ولم يدرك أن جماهيره تعاني اقتصاديًا وتكتوي بنار الأسعار التي فرضها النظام الحالي على الغلابة والفقراء، في الأدوية والملابس والمواصلات والطعام والشراب.

لم يدرك "موتة" أن محبيه وجماهيره التي أراد أن يشاركها فرحة شرائه سيارتين بملايين الجنيهات، يتشعلقون في المواصلات العامة على سلالم الأتوبيسات، وتختلط أجسادهم في المترو حتى تصير كالجسد الواحد، ويشعرون بالذل من سائقي الميكروباص بعد أن صار أغلبهم يفعلون كما يفعل في أدواره.

كما أنه لم يدرك أن جماهيرًا غفيرة قلدته في حلقة شعره في مسلسل الأسطوة، وصارت تحشر مقولته الشهيرة "ثقة في الله" في كل كلامها، وتقلده في الرقص بالأسلحة وفي طريقة الكلام السوقية، ستحاول تقليده في شراء سيارتين فارهتين بأساليب غير شرعية، فمن وجد أن تجارة الحشيش والمخدرات هي التي تجعل من الشخص "أسطورة" وأن القانون لا يفيد في أكل العيش، سيسعى إلى أن يشتري سيارة عبده موتة حتى يصبح أسطورة (مع أني أؤمن بأن الإنسان مخيّر في أفعاله، وأنه ليس خروفًا يُساق كما يريد البعض "أحيانًا").

كنت دائمًا وسأظل مع حرية الفن وكل الحريات التي يجب أن يحظى بها المجتمع، لكن عبده موتة لا يقدم للمجتمع سوى غائط ينتشر بسرعة الوباء في كل أعماله، ثم يقبض ما تيسر له من ملايين الدولارت لشراء سيارات يغيظ بها الناس، ثم نعيش نحن في جحيم مريديه ومحبيه في كل مكان، ممن يقلدونه في كل شئ.

أخيرًا مبروك لهرم، ومبروك لعبده موتة.. وتبًا لكما، وتبًا عليكما، وجمع بينكما في خير.




عن "هشام رزق" والأكلة الاشتراكية






لا أذكر التواريخ، ولكني أذكر التفاصيل كلها؛ كنا حينها معًا في جنازة أحد رفاقنا "أحمد المصري" الذي قُتل برصاص الداخلية، كانت دموعي حينها لا تتوقف على فراق "المصري".

شريطٌ يمر أمام عيني ولا أسمع من الأصوات شيئًا، ولا أرى إلا ضبابًا، ثم أفيق على صوت أحد رفاقنا الذي يصرخ، ويسب الداخلية، انتهينا من دفن "المصري"، ولكننا لم ندفن معه أي من ذكرياتنا.

جائني هشام، وضع يده على كتفي، وقال:
- لا أحب أن أراك حزينًا، فأنت دائمًا تضحك، والجميع يحبون ضحكتك.

كان يطالبني بأن أضحك، مع أني أذكر أني رأيته يبكي.

بعد انتهاء الجنازة، وصلنا إلى منزل "المصري"، كي نجهز سرادق العزاء، هشام جلس على الأرض، بدا على وجهه التعب والإرهاق.

- هشام، هل أنت جائع؟

= جائع، ولكن لا يهم، هناك الكثير جائعون ولا يهتم لأمرهم أحد.

- إذًا، فلنكن من القلة التي تشعر بالشبع، هيا نبحث عن شئ نأكله.

هشام كان يحب الفقراء، ويحب أن يعيش حياتهم، ويكره الأغنياء ويكره حياتهم ويصفها بالحياة البلهاء.

- سنأكل كشري، فهو أرخص طعام يمكن شرائه في منطقة بولاق الدكرور. هكذا قلت.

= وسنشتري رغيفي خبر، هكذا قال.

اشترينا علبة واحدة، ولا أذكر من فينا الذي كان مفلسًا لدرجة أننا اشترينا علبة واحدة، لكني أذكر أن أحدنا كان معه من المال ما يكفي المواصلات فقط.

***
كان "المصري" يحب أن يمشي في شارع محمد محمود، وأنا أيضًا، وهشام كذلك، بالإضافة إلى أن هشام كان يحب أن يرسم في الشارع ذاته، كان رسامًا بارعًا؛ كنت أسأله كيف يمكن أن يرسم ملامح الخلق بتلك البساطة؟

- كل ما عليك فعله يا صديقي أن ترسم ما بداخل الناس، فلتنظر إلى أكثر شيء جذبك في الشخص حتى لو كان شئيًا سيء، واجعله يسيطر على عقلك جيدًا، ستجد نفسك رسمته ببراعة، الجميل يصير جميلا، والقبيح قبيح، والطيب طيب.

***
اتفقنا على أن نرسم "المصري" في شارع محمد محمود، في مكان كنا نجلس فيه كثيرًا، فكنا نجلس على الرصيف في شارع محمد محمود، نغني حتى الفجر، كنا نحمل حنينًا لهذا الشارع بشكل لا يوصف.. فهنا سالت دماء، وهنا اكتشفنا أن هناك شيئًا ما يدبّر للثورة، فنوينا أن نكملها، كنا نصطف كتفًا بكتف، ويحدث كرٌ وفر، نتعب في الصباح ويقل العدد، فتأتي طلبة المدارس بأعداد كثيفة بعد أن ينتهي يومهم الدراسي، ويهتفون بصوت عالٍ، فتدب الروح في الشارع من جديد، فيزداد الثائرون غضبًا ويزداد الغاز والرصاص والخرطوش، ولكن الإصرار دائمًا ينتصر.

يسقط أحدهم، فيقولون مات، وينفي أحدهم ويقول أنه أصيب،، موتوسيكلات، وسّع طريق، إسعاف، حااااسب، عيون أحمد حرارة، هُدنة، هتافات، هتافات، هتافات.

كل هذا كان شريطا يمر أمام أعيننا عندما نمرّ من شارع محمد محمود.

كنت منهكًا جدًا، واتصلت بهشام حتى نبدأ ما اتفقنا عليه ونرسم جرافيتي لـ "المصري"، فلم يرد، وأغلق هاتفه.. تعصبت، وقلت أن هذا "شغل عيال" !

اتصل هشام مساءً، فوبخته في أول المكالمة، فسألني: خلّصت؟

-انجز، هنرسم المصري امتي؟

= ابقى عدّي من الشارع وقول لي رأيك، أنا مردتش عليك عشان عارف إنك تعبان.

كان هشام يعلم أن موت "المصري" قد أثر في كل شئ في حياتي، وجعلني كئيبًا، منهكًا، فأراد أن يفاجئني برسمة "المصري" دون أن يتعبني. فرحت حينها جدًا، وأحببت هشام أكثر.

***
الأكلة الاشتراكية.
كنا نجتمع بشكل مستمر، هشام، ومصري، رحمهما الله، وزيزو عبده (فك الله أسره) وممدوح جمال الذي سُجن فترة طويلة وأقرب الناس لـ "هشام" ولقلوب كثير من الرفاق، وعُلا، التي تعتبر أن النادي الأهلي لا بد أن نحارب من أجله إن استدعى الأمر ذلك.

عندما نجتمع معًا، لا بد أن نأكل "الأكلة الاشتراكية".. هكذا أطلق عليها زيزو، وأكد عليها هشام، ودائمًا يقترحها ممدوح.

كل ما عليك فعله أن تدفع 2 جنيه، وستأكل طعامًا يكفيك أسبوعًا، بطاطس وطعمية وفول بالزيت الحار وفلفل وكل حاجة تتخيلها من الحاجات المضرة للمعدة؛ هكذا كان يقول هشام لأحدهم، ليصف له معنى "الأكلة الاشتراكية".

***
لا أدري إن كان هذا وداعًا أم أنها مجرد صدفة.. كنت أرتدي رداءً أبيض، وأجلس منتظرًا من سيأتي في زيارة اليوم؛ كان هذا في سجن أبو زعبل عندما كنت محبوسًا على ذمة الحبس الاحتياطي، لا أذكر التاريخ، لكني أذكر أن هشام كان أول من استطاع الدخول لساحة الزيارة، حتى أنه دخل قبل شقيقي محمد؛ كان يجري مبتهجًا كطفل يحتفي بقدوم العيد.

جلس أمامي على الأرض، وكان ينظر لي، فقط ينظر ويبتسم، لا مجرد صدفة.

كان هشام قد جاءني في زيارة قبلها، لكني لا أذكر منها شيئًا سوى أنه زارني، أما الزيارة الأخيرة، فأكاد أحفظها كما أحفظ اسمي.

- هتخرج وناكل أكلة اشتراكية يا زيادة.. هجيلك زيارة تاني على فكرة. هكذا قال.

ولكننا لم نأكل أكل اشتراكي مرة أخرى، ولم يأت في زيارة كما وعدني.

ليتني كنت أعلم أنني لن أراه مرة أخرى، لا أدري ماذا كنت سأفعل، ولكني أعتقد أن هناك شيئًا ما كان سيبقى مختلفًا.

***
جلست في الزنزانة مع رفيقي الذي تعرفت عليه في السجن أحمد مصطفى، أخبرني أن أحد المساجين قد استطاع أن يهرب هاتف يدعم الإنترنت، وسألني إن كنت أريد تصفح الإنترنت 10 دقائق، قبل أن تكتشف المباحث وجود هاتف، وبالفعل اكتشفوا فيما بعد، فوافقت طبعًًا، عام ونصف لا أعلم ماذا يعني الإنترنت، ليتني ما وافقت!

أول ما رأيته عندما فتحت حسابي على موقع facebook كانت مشاركة لزميلتي ندى الحريري، تعلن أن هشام رزق قد مات بعد أن كان مختفيًا.. وكأن الأقدار شاءت أن أعلم بموت هشام في نفس اللحظة التي علم فيها الجميع.

لم أكن أعلم أن هشام كان مختفيًا، كيف لم أعلم، أخي لم يخبرني، وكان يحاول ألا يجعلني أعلم شيئًا عن موت هشام.. ولكنني علمت بموته، لم أحضر جنازته، ولم أكن من المشاركين في البحث عنه.

تركت الهاتف وتركت دموعي تغرق النمرة "الغطاء"، فتفأجأ مصطفى، فهو كان ينتظر أن أصف له فرحتي بالهاتف، فقلت بصوت ممزوج بحشرجة: هشام مات!

***
بعد أن خرجت من السجن فتحت صفحته، راجعت كل رسائلنا، راجعت صفحته فشعرت أنه كان يعلم بأنه سيفارقنا..

«سأبقى أرسم وإن انتهت ألوانى سأرسم بدمي.. لي الفخر أني أنتمي لتلك الطبقه الكادحة في مجتمعنا المصرى.. لا أخجل من كوني أعيش في مكان فقير أو من كونى فقير ماديا، ولكني معنويا من أغنى الأغنياء، لأني أمتلك الحب لذلك الوطن، لا يهمني قشورى الشكلية بل أحاول أن أسمو بذاتى إلى الكمال الإنساني.. "لعلني أكون ذلك الرجل المنتظر".

"سأظل طويل الشعر، مهلهل الملابس، مقطع الحذاء، حتي ينفض من يهتم بمظهري من حولي، ويتجمع حولي من يبحث في جوهري ليبتعد عني من يهتم بالمظاهر والقشور ويقترب منى من ارتقى إلى جوهري، إني لا أفكر في خلودي، ولكن أفكر في خلود الثورة وأهدافها.. ثورة 25 يناير".

"لا تحزنوا يا رفاق.. إن كنت من الشهداء، فإني اُصطفيت لأكون من أهل الجنة.. عنواني حب بلادي وحب شهيد روى السنابل بدمه".

رحم الله هشام، ورحمنا.


ألم تقل لك مصر أنك "خربتها"؟



مصر العربية

يطل علينا بوجه لامع من فرط العرق، مرتبك غير واثق في نفسه كالعادة، ويقول برومانسية بالغة "الأفورة" بعد أن يمصص شفتيه عدة مرات "أنا عايز الأولاد دول يطلعوا قدام" ثم يضحك ضحكًا هيستيريًا غير مبرر. أو ربما يضحك لأن الأولاد تُطاردهم قوات الأمن في الشوارع بعد اعتراضهم على فشل المنظومة التعليمية وتسريب الإمتحانات، أو خطرت بباله صورة الولد الذي لم يكمل من عمره 17 عامًا والذي كانت تطارده قوات الأمن كأنه وضع اصبعه في مؤخرة أحدهم، مع أنه لم يطالب سوى بعدم إلغاء امتحانات الثانوية العاملة أو تأجيلها، وبإقالة وزير التربية والتعليم الذي فشل في منع تسريب الإمتحانات وفشل في أن يعرف الفرق بين "الذين" و "الزين".

ربما ضحك بشكل هيستيري لانه قرأ تقريرًا نشرته صحيفة التايمز البريطانية في فبراير الماضي عن مقابلة أجرتها منظمة "ريبريف" مع الطالب الإيرلندي، إبراهيم حلاوة، الذي اعتقل في 2013، يصف فيها "ظروف سجن وادي النطرون وصنوف العذاب التي يتعرض لها المعارضون للنظام"، فقد صرح ابراهيم حينها أنه تعرض مع مساجين آخرين إلى الضرب والتعذيب باستمرار، وأنهم اضطروا إلى أكل الدود للحصول على البروتينات"؛ وأضاف أنه جرد من ملابسه تمامًا، وتعرّض للاعتداء الجنسي، والضرب بالسلاسل الحديدية.

وربما ضحك عندما علم بتقرير حملة "الحرية للأطفال" الذي يفيد بأن هنالك نحو ٤٧٨ طفلًا محتجزًا على ذمة قضايا سياسية، أو اطلع على تقرير منظمة التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، الذي يفيد بأن أكثر من 3200 طفلًا داخل مراكز الاحتجاز المختلفة على مستوى الجمهورية منهم 193 طفلًا حوكموا عسكريًا، وأن هناك 78 حالة اعتداء جنسي مورست ضدهم، كما رصد التقرير وفاة 10 أطفال داخل السجون وأماكن الاحتجاز، طبقًا للتنسيقية.

ربما تسائل حينها وهو يضحك بشكل هيستيري"ايه اللي أنا بقوله ده؟ وأولاد ايه اللي يطلعوا قدام؟ محدش هيطلع لقدام طول ما أنا موجود".

***
بعد أن يضحك ضحكًا هيستريًا، يصفق الحضور تصفيقًا حادًا، علامَ يصفقون؟ لا يهم، المهم أن في كل مكان وزمان لن تجد ديكتاتورًا يبني عرشة إلا على نفاق هؤلاء الذين يصفقون على كل خراء وفساء يصدره الديكتاتور، انهم يدّعون أن خراء الحكام لحم طازج وفسائهم عطر ليس كمثله عطر.

***
بسهوكة شديدة، وتمثيل غير بارع، يدّعي الرئيس السيسي أنه قد حمل رسالة من مصر، إذًا فسيدنا موسى كليم الله، وسيدهم السيسي كليم مصر!

جائنا السيسي برسالة من مصر قائلًا: "أنا بقى مُحمّل برسالة مش من المصريين، ولا من أي حد، أنا مُحمّل برسالة من مصر، من المصر، من مصر، مصر بلدنا، قالت لي لازم تبلغ الرسالة دي لأهل مصر، شوفوا مصر بتقول لكم كلكم، أنا أمانة في رقبتكم، في رقبة مين؟ كل المصريين، مصر بتقول لكم اوعوا ابدا تختلفوا!

ربما كانت "مصر السيسي" تقصد في مسألة الإختلاف ألّا نختلف على السيسي نفسه، وأن نأكل بعضنا بعضًا في كل ما هو دونه.

ولا أدري كيف تجاهلت مصر وهي تحذره من مخاطر الاختلاف، أن تحذره من مخاطر أن يبيع تيران وصنافير للسعودية، وأن يقف أمام المحاكم من أجل أن يثبت أنهما سعوديتان.

كيف لم تخبره أن من يستحق السجن هو من خان الوطن، لا من قال أن تيران وصنافير مصريتان، وكيف لم تحدثه عن مالك عدلي، الذي دافع عن مصرية الجزر فكان مصيره السجن؟ كيف لم تخبره أن زيزو عبده الذي أضاع من عمره سنين عجاف في الهتاف من أجل العيش والحرية لا يستحق السجن، بل يستحق التكريم لو أن للعدل وجودًا.

ألم تحدثه مصر عن سناء سيف؟ التي خافت من السكوت عن الحق أكثر من خوفها من السجن؟، وعن شقيقها علاء الذي سجن في كل عصور الديكتاتوريات المباركية المختلفة؟

ألم تحدثه مصر عن حرجها من اعتقال الفتى السوري هشام زهير ومحاولات ترحيله إلى  سوريا مما يهدد حياته؟!

ألم تحدثه عن ماهينور، ويوسف شعبان، ولؤي القهوجي، وشوكان، و شريف العفيفي، وأسماء حمدي؟!

***
يدّعي السيسي أن مصر أبلغته أنه مفيش سبب يدعونا للخلاف، كلنا.

كيف لا نختلف؟ هل يريدنا أن نقبل أن تقترض مصر من روسيا أكبر قرض في تاريخها بقيمة 25 مليار دولار وبفائدة سنوية 3%، وإن تأخرنا 10 أيام في دفع قسط من القرض ندفع 150% زيادة؟ هل يظن الناس قد أصابهم الجنون؟  من سيدفع تلك المبالغ سوى نحن والأجيال القادمة؟ كيف يمكننا أن نصدق أنه يريد الحفاظ على مصر وهو لا يهمه إلا أن يحافظ على عرشه؟

***
يكمل حواره الهزلي: "ومصر بتقول لكم، اوعوا حد يضحك عليكم ويخدعكم يا مصريين".

وهل هناك خداع أكثر من أن يحتشد الناس في مظاهرات 30 يونيو من أجل إكمال ثورتهم "25 يناير"، فيجدوا أنهم قد اُستغلوا بعدها وأن بحارًا من الدماء قد أغرفت البلاد في مجزرتي رابعة العدوية والنهضة، وقبلهما أحداث المنصة؟
هل هناك خداع وكذب أكثر من أن تسجن أبناء يناير وأن تدّعي أنك تؤمن ب"يناير" ومبادئها؟

***
اختتمت مصر السيسي رسالتها بأبيات شعر كتبتها وهي تتمشى على كورنيش النيل وسط عوادم السيارات وتنظر إلى النيل الذي اقترب على الجفاف بعد كارثة سد النهضة: "مصر بتقول لكم مكاني مش اللي أنا فيه؛ ده مكاني مش كده، بقى أنا برده حجمي كده، بقى أنا عندكم كده، أنا متحوجش كده؛ مصر بتقول لكم أنا متحوجش، يعني مناكلش، آه مناكلش، يعني منّامش، آه منّامشِ.  

بالفعل ما يحدث لا يليق بمكانة مصر وحجمها، ففي الوقت الذي انشغل فيه سيسي مصر بصراعاته الداخلية للبقاء على كرسي الحكم أطول فترة ممكنة،  كان رئيس الوزراء الإسرائيلي "بينيامين نتنياهو" قد اجتمع مع سبعة رؤساء من دول أفريقيا من بينهم دول حوض النيل.

وقال في تصريحات نقلتها وكالة الأناضول إن ذلك "سيصب في إعادة بناء أغلبية لإسرائيل في المحافل الدولية؛ الأمر قد يستغرق عقداً من الزمن، لكن سننجح في تغيير أنماط التصويت في العالم لصالحنا".
أما عن مصر السيسي، فصارت لا تنظر لإسرائيل على أنها عدوة من الأساس، وصار السيسي يطالب بالسلام الدافئ مع اسرائيل في علاقة غير شرعية.

فقد صرّح السفير الإسرائيلي لدى مصر "حاييم كوهين" لأسوشيتد بريس، أن مصر وإسرائيل "تتمتعان حاليا بعلاقات قوية" وأن هناك "تفاهمًا قويا" بين الجيشين بشأن "تطور الأوضاع بالمنطقة وشبه جزيرة سيناء".

بقى أنا برده حجمي كده؟ أنا عندكم كده؟

***
أما عن الحوجة التي احتجت عليها مصر في رسالتها للسيسي؛ فليس هناك حوجة أكثرسوءًا من أن تصير مصر رمزًا للشحاتة في عهد السيسي؟
فإذا أضفنا إلى قرض الـ 25 مليار دولار من روسيا الذي ذكرناه، حصول مصر على قروض وودائع ب 4 مليارات دولار من السعودية، و4 مليارات دولار من الإمارات، و 4 مليارات دولار من الكويت، و 500 مليون دولار من عمان، 130 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي، 120 مليون يورو من البنك الأوروبي. في أثناء انعقاد المؤتمر الاقتصادي، حسب تقرير لموقع البديل.

وإذا قلنا أن الحكومة وقعت اتفاقية مع البنك الدولي؛ للحصول على مليار دولار، وقرض من بنك التنمية الإفريقي، بقيمة 1.5 مليار دولار. وأن هنالك اتفاقية اقتراض بين وزارة الدفاع ومجموعة من البنوك الفرنسية، بضمان وزارة المالية، وتبلغ قيمة القرض نحو 3.375 مليارات يورو، أي ما يتجاوز 30 مليار جنيه مصري.

وإذا قلنا أن مصر حصلت علي مجموعة قروض من السعودية، منها اتفاقية قرض بقيمة 1.5 مليار دولار لتنمية سيناء. وقرض بقيمة مليار جنيه في إطار تطوير مستشفيات قصر العيني.. كما تم توقيع اتفاقية لتمويل احتياجات مصر البترولية بـ 20 مليار دولار، وتأسيس شركات سعودية جديدة برأسمال 4 مليارات قرضًا من المملكة العربية السعودية، كما حصلت مصر على قرض من بنك دبي الوطني؛ لتمويل جزء من محطتي كهرباء العاصمة الجديدة، بقيمة 2 مليار جنيه. فسنعلم عن أي حوجة تتحدث مصر في رسالتها؟ وسنعلم من الذي جعل مصر تشحذ.

الغريب أنه بعد كل هذه القروض الضخمة لا نرى من الإنجازات إلا "فنكوش كبير" فحكومة تحارب الفقراء بدلًا من محاربة الفقر، لا يمكنه أن تصنع إلا انجازات وهمية.

***
ولكي نحكم على رؤية السيسي المستقبلية للبلاد، فيكفي أنه في ظل كل الأزمات التي تمر بها البلاد، قد خاف من حسد الأشرار وأنهى خطابه قائلًا "احنا بسم الله ما شاء الله في افضل حالتنا، وتحيا مصر 3 مرات"