لا أذكر التواريخ، ولكني أذكر التفاصيل كلها؛ كنا حينها معًا في جنازة أحد رفاقنا "أحمد المصري" الذي قُتل برصاص الداخلية، كانت دموعي حينها لا تتوقف على فراق "المصري".
شريطٌ يمر أمام عيني ولا أسمع من الأصوات شيئًا، ولا أرى إلا ضبابًا، ثم أفيق على صوت أحد رفاقنا الذي يصرخ، ويسب الداخلية، انتهينا من دفن "المصري"، ولكننا لم ندفن معه أي من ذكرياتنا.
جائني هشام، وضع يده على كتفي، وقال:
- لا أحب أن أراك حزينًا، فأنت دائمًا تضحك، والجميع يحبون ضحكتك.
كان يطالبني بأن أضحك، مع أني أذكر أني رأيته يبكي.
بعد انتهاء الجنازة، وصلنا إلى منزل "المصري"، كي نجهز سرادق العزاء، هشام جلس على الأرض، بدا على وجهه التعب والإرهاق.
- هشام، هل أنت جائع؟
= جائع، ولكن لا يهم، هناك الكثير جائعون ولا يهتم لأمرهم أحد.
- إذًا، فلنكن من القلة التي تشعر بالشبع، هيا نبحث عن شئ نأكله.
هشام كان يحب الفقراء، ويحب أن يعيش حياتهم، ويكره الأغنياء ويكره حياتهم ويصفها بالحياة البلهاء.
- سنأكل كشري، فهو أرخص طعام يمكن شرائه في منطقة بولاق الدكرور. هكذا قلت.
= وسنشتري رغيفي خبر، هكذا قال.
اشترينا علبة واحدة، ولا أذكر من فينا الذي كان مفلسًا لدرجة أننا اشترينا علبة واحدة، لكني أذكر أن أحدنا كان معه من المال ما يكفي المواصلات فقط.
***
كان "المصري" يحب أن يمشي في شارع محمد محمود، وأنا أيضًا، وهشام كذلك، بالإضافة إلى أن هشام كان يحب أن يرسم في الشارع ذاته، كان رسامًا بارعًا؛ كنت أسأله كيف يمكن أن يرسم ملامح الخلق بتلك البساطة؟
- كل ما عليك فعله يا صديقي أن ترسم ما بداخل الناس، فلتنظر إلى أكثر شيء جذبك في الشخص حتى لو كان شئيًا سيء، واجعله يسيطر على عقلك جيدًا، ستجد نفسك رسمته ببراعة، الجميل يصير جميلا، والقبيح قبيح، والطيب طيب.
***
اتفقنا على أن نرسم "المصري" في شارع محمد محمود، في مكان كنا نجلس فيه كثيرًا، فكنا نجلس على الرصيف في شارع محمد محمود، نغني حتى الفجر، كنا نحمل حنينًا لهذا الشارع بشكل لا يوصف.. فهنا سالت دماء، وهنا اكتشفنا أن هناك شيئًا ما يدبّر للثورة، فنوينا أن نكملها، كنا نصطف كتفًا بكتف، ويحدث كرٌ وفر، نتعب في الصباح ويقل العدد، فتأتي طلبة المدارس بأعداد كثيفة بعد أن ينتهي يومهم الدراسي، ويهتفون بصوت عالٍ، فتدب الروح في الشارع من جديد، فيزداد الثائرون غضبًا ويزداد الغاز والرصاص والخرطوش، ولكن الإصرار دائمًا ينتصر.
يسقط أحدهم، فيقولون مات، وينفي أحدهم ويقول أنه أصيب،، موتوسيكلات، وسّع طريق، إسعاف، حااااسب، عيون أحمد حرارة، هُدنة، هتافات، هتافات، هتافات.
كل هذا كان شريطا يمر أمام أعيننا عندما نمرّ من شارع محمد محمود.
كنت منهكًا جدًا، واتصلت بهشام حتى نبدأ ما اتفقنا عليه ونرسم جرافيتي لـ "المصري"، فلم يرد، وأغلق هاتفه.. تعصبت، وقلت أن هذا "شغل عيال" !
اتصل هشام مساءً، فوبخته في أول المكالمة، فسألني: خلّصت؟
-انجز، هنرسم المصري امتي؟
= ابقى عدّي من الشارع وقول لي رأيك، أنا مردتش عليك عشان عارف إنك تعبان.
كان هشام يعلم أن موت "المصري" قد أثر في كل شئ في حياتي، وجعلني كئيبًا، منهكًا، فأراد أن يفاجئني برسمة "المصري" دون أن يتعبني. فرحت حينها جدًا، وأحببت هشام أكثر.
***
الأكلة الاشتراكية.
كنا نجتمع بشكل مستمر، هشام، ومصري، رحمهما الله، وزيزو عبده (فك الله أسره) وممدوح جمال الذي سُجن فترة طويلة وأقرب الناس لـ "هشام" ولقلوب كثير من الرفاق، وعُلا، التي تعتبر أن النادي الأهلي لا بد أن نحارب من أجله إن استدعى الأمر ذلك.
عندما نجتمع معًا، لا بد أن نأكل "الأكلة الاشتراكية".. هكذا أطلق عليها زيزو، وأكد عليها هشام، ودائمًا يقترحها ممدوح.
كل ما عليك فعله أن تدفع 2 جنيه، وستأكل طعامًا يكفيك أسبوعًا، بطاطس وطعمية وفول بالزيت الحار وفلفل وكل حاجة تتخيلها من الحاجات المضرة للمعدة؛ هكذا كان يقول هشام لأحدهم، ليصف له معنى "الأكلة الاشتراكية".
***
لا أدري إن كان هذا وداعًا أم أنها مجرد صدفة.. كنت أرتدي رداءً أبيض، وأجلس منتظرًا من سيأتي في زيارة اليوم؛ كان هذا في سجن أبو زعبل عندما كنت محبوسًا على ذمة الحبس الاحتياطي، لا أذكر التاريخ، لكني أذكر أن هشام كان أول من استطاع الدخول لساحة الزيارة، حتى أنه دخل قبل شقيقي محمد؛ كان يجري مبتهجًا كطفل يحتفي بقدوم العيد.
جلس أمامي على الأرض، وكان ينظر لي، فقط ينظر ويبتسم، لا مجرد صدفة.
كان هشام قد جاءني في زيارة قبلها، لكني لا أذكر منها شيئًا سوى أنه زارني، أما الزيارة الأخيرة، فأكاد أحفظها كما أحفظ اسمي.
- هتخرج وناكل أكلة اشتراكية يا زيادة.. هجيلك زيارة تاني على فكرة. هكذا قال.
ولكننا لم نأكل أكل اشتراكي مرة أخرى، ولم يأت في زيارة كما وعدني.
ليتني كنت أعلم أنني لن أراه مرة أخرى، لا أدري ماذا كنت سأفعل، ولكني أعتقد أن هناك شيئًا ما كان سيبقى مختلفًا.
***
جلست في الزنزانة مع رفيقي الذي تعرفت عليه في السجن أحمد مصطفى، أخبرني أن أحد المساجين قد استطاع أن يهرب هاتف يدعم الإنترنت، وسألني إن كنت أريد تصفح الإنترنت 10 دقائق، قبل أن تكتشف المباحث وجود هاتف، وبالفعل اكتشفوا فيما بعد، فوافقت طبعًًا، عام ونصف لا أعلم ماذا يعني الإنترنت، ليتني ما وافقت!
أول ما رأيته عندما فتحت حسابي على موقع facebook كانت مشاركة لزميلتي ندى الحريري، تعلن أن هشام رزق قد مات بعد أن كان مختفيًا.. وكأن الأقدار شاءت أن أعلم بموت هشام في نفس اللحظة التي علم فيها الجميع.
لم أكن أعلم أن هشام كان مختفيًا، كيف لم أعلم، أخي لم يخبرني، وكان يحاول ألا يجعلني أعلم شيئًا عن موت هشام.. ولكنني علمت بموته، لم أحضر جنازته، ولم أكن من المشاركين في البحث عنه.
تركت الهاتف وتركت دموعي تغرق النمرة "الغطاء"، فتفأجأ مصطفى، فهو كان ينتظر أن أصف له فرحتي بالهاتف، فقلت بصوت ممزوج بحشرجة: هشام مات!
***
بعد أن خرجت من السجن فتحت صفحته، راجعت كل رسائلنا، راجعت صفحته فشعرت أنه كان يعلم بأنه سيفارقنا..
«سأبقى أرسم وإن انتهت ألوانى سأرسم بدمي.. لي الفخر أني أنتمي لتلك الطبقه الكادحة في مجتمعنا المصرى.. لا أخجل من كوني أعيش في مكان فقير أو من كونى فقير ماديا، ولكني معنويا من أغنى الأغنياء، لأني أمتلك الحب لذلك الوطن، لا يهمني قشورى الشكلية بل أحاول أن أسمو بذاتى إلى الكمال الإنساني.. "لعلني أكون ذلك الرجل المنتظر".
"سأظل طويل الشعر، مهلهل الملابس، مقطع الحذاء، حتي ينفض من يهتم بمظهري من حولي، ويتجمع حولي من يبحث في جوهري ليبتعد عني من يهتم بالمظاهر والقشور ويقترب منى من ارتقى إلى جوهري، إني لا أفكر في خلودي، ولكن أفكر في خلود الثورة وأهدافها.. ثورة 25 يناير".
"لا تحزنوا يا رفاق.. إن كنت من الشهداء، فإني اُصطفيت لأكون من أهل الجنة.. عنواني حب بلادي وحب شهيد روى السنابل بدمه".
رحم الله هشام، ورحمنا.