Aljazeera |
لسماع المقال اضغط هنا
ينظُر الرجل يمينًا ويسارًا، ثم يقبض علىٰ أذن ابنه مُرتعدًا.
- ألمْ أحذّرك من الحديث عن الجوع بصوتٍ عالِ يا بُني؟! سيظنّونا من الثوار ويعدمونا رميًا بالرصاص، أو يخنقونا توفيرًا لسعر الرصاص الحيّ.
ينظر الولد إلى السماء فيرى أنوارًا بعيدة تنطلق مع صوت طلقات النار، يسأل الفتى أبيه عن صوت الرصاص والأضواء البعيدة؟!
- الباشاوات والجنرالات ورجال الأعمال يحتفلون.
- لماذا يحتفلون؟ هل أحضروا الطعام الذي وعدونا بهِ؟
- لا!
- صنعوا الملابس؟
- لا!
- شيّدوا بيوتنا التي وعدوا؟
- لا!
- فلمَ يحتفلون؟
- لأن الساعة تخطّت الثانية عشر ليلًا، نحن الآن في أول دقيقة من عام 2030، كل عام وأنت بخير يا بني.
ينظر الولد لأبيه متعجبًا.
- لكنّي لست بخير يا أبي؛ وأنت أيضًا؛ لست كذلك.
يغضب الأب من صراحة ابنه؛ ويأمره بالسكوت. هكذا هم الكبار، عاشوا طوال أعمارهم خائفين، صامتين؛ يشعرون ببعض الشجاعة فقط عندما يأمرون صغارهم بالسكوت واتباعهم في عاداتهم وعاهاتهم.
- أريد أن أنام يا أبي، أين سننام الليلة؟!
- سننام تحت آية كوبري.
- قلت لي أنه كان لديك بيتٌ في الماضي، ماذا عن أول بيت؟
يضحك الرجل حد البكاء، ويتذكر حكاية قديمة What about the first Oscar for you?
- اسكت يا ولدي لا تقلّب علينا المواجع.
يمرّ بائع المياه على النائمين تحت الكوبري، وهم كثيرون. في الشتاء يرتفع سعر المياه من 200 جنيه إلى 250 جنيه، ليعوّض التجّار خسائرهم نتيجة قلة الشراء؛ يشتري الأب زجاجة مياه؛ ويأمر ابنه بعدم الإسراف في الشرب، كي تكفي الزجاجة أسبوع.
- هل تعلم يا بني أن الأنفاق القريبة من ميدان التحرير كانت مليئة بالمياه؟
- ماذا؟!
- كانت تدعى "مياه النيل" وكانت بلدنا هبة النيل، ولكن هبة ماتت. الآن عبارة عن نصف نفق تمر به الدبابات والمواكب الحكومية؛ ولا يسمح للعوام أمثالنا أن يمروا به، لأن الحكام يخشون على أنفسهم منّا، منذ عام 2011 وهم يخافون من الشعب، يخافون أن يثور الناس عليهم.
- اصمت يا أبي، ألم تحذرني من الحديث عن الجوع والعطش والثورة؛ اصمت كي لا يقتلونا.
يشعر الرجل ببعض الرضا؛ يضع يده على رأس ولده ويبتسم:
- شاطر يا ولد، تعلمت سريعًا.
لكن الولد لم يتعلم، فالعبودية لا تتوارث؛ جميعنا مخيّرون بين أن نصير عبيدًا أو أحرارًا؛ فالعبودية اختيار وليست إجبار.
يرقد الرجل وابنه وبجوارهما نيران تضئ الظلام وتدفئ الأجواء.
- قلت يا أبي أننا يومًا سننام في بيت لنا، فمتى؟
- لا تقلق يا بني، قريبًا سيتنهي مشروع "المليون وحدة سكنية" فهذا المشروع تشيّده الحكومة لمحدودي الدخل.
- وهل نحن محدودي الدخل يا أبي.
- لا، نحن معدومي الدخل.
- إذا لن نحصل على وحدة سكنية.
- ربّما.
- سمعت يا أبي أن إسرائيل ستعلمنا القراءة والكتابة؛ وسيعطونا ملابس ثقيلة كملابس الأغنياء و....
- اخرس يا ولد، إسرائيل لا تحبنا أبدًا وتريد لنا أن نختفي من على وجه الأرض؛ ونحن أيضًا لا نحبها.
- كيف هذا؟ الزعيم يحبهم، والجنرالات يجلسون معهم، والرجال يتباهون أنهم على علاقة بإسرائيل.
- لا تصدّق يا ولدي، الناس يقولون أنهم يحبون اسرائيل لأنهم خائفون.
- وهل تخاف مثلهم؟
- لا، أنا أموت من الرعب. نمْ يا بني.
- سأنم ولكن عدني أنك غدًا ستجعلني أشاهد التلفاز مثل الأغنياء كما وعدتني.
- نمْ، وفي الصباح سنذهب إلى نادي التليفزيون، الحمد لله معنا 1200 جنيه، لكن أتمنى من الله ألا يكون سعر الدخول ارتفع.
يشعر الفتى بالفرحة ولكنه لا يكف عن الأسئلة:
- ألا يمكننا أن ننام في المساجد؟
- ممنوع.
- ألا يمكننا أن ننام في الكنائس؟
- ممنوع.
- لماذا شيدوها إذًا؟!
- ليدافع رجال الدين عن الحكّام.
- إن لم ننمْ هنا؛ فأين يمكننا النوم؟
- في السجون؛ لكننا سنتعرض حينها للتعذيب، والله لو لم تنم لأضربنك.
ينام كلاهما في سلام وأمان، في بلدٍ "بتطلع لقدام"، كما قال الزعيم. هكذا هم من يحكمون الفقراء، يرون أن كل شئ على ما يرام، طالما أنهم ما زالوا يجلسون على العرش.
أشرقت الأرض بنور ربها؛ فأضائت المكان، ولكن العقول ما زالت مظلمة، يتسيقظ الرجل ويحمد الله: "الحمد لك يارب، الحمد لك على أنهم لا يستطيعون التحكّم في نور الشمس، كنا سنظل طوال عمرنا في ظلام"
- استيقظ يا بنيّ كيْ نذهب، فأمامنا رحلة شاقة كي نَصِل إلى نادي التليفزيون.
- ولِمَ نذهب سيرًا على الأقدام يا أبي؟
- هل جننت؟ تظن نفسك من الأغنياء كي نَركب المواصلات، عليك أن تشكر الله لأنهم لم يفكروا بعد في أن يرْكَبُونا كوسيلة مواصلات.
يقبض الرجل على يد ولده؛ ويمضي به ليحقق له حلم مشاهدة التليفزيون.
أحِلمٌ هذا أم كابوس؟ أم خازوق؟ أعتقد أنه خازوق، فسندفع كل ما نملك من أجل مشاهدة الكذّابون هكذا حدّث الرجل نفسه.
يقول أبي أنه لا أحدٌ ينام من غير عَشاء، إنه يكذب، فنحن دائمًا ننام من غير عشاء، هكذا قال الفتى لنفسه.
في طريقهما يشاهدان مظاهرة حاشدة، كل من فيها عُراة، حُفاة، جائعون، يرتعدون من الخوف، يحملون صورًا للزعيم؛ يهتفون بإسمه. يلعنون الثورة؛ يسبّون الثوار الذين تسببوا في خراب الديار؛ يبحثون عن شخص لا يبتسم كي يتهموه بأنه من الثوار؟ وهل أصبحت الثورة تهمة؟! نعم إنها تهمة تؤدي إلى الإعدام. يصرخون بغضب، أين هؤلاء الثوار؟ يصرخون بثقة لأنهم يعلمون أن الثوار لا يمكن أن يؤذوهم. يقبّلون صور الزعيم وكأنهم يأكلونها، يضَعون أحذيةً فوقَ رؤوسهم؛ انها أحذية رجال الأمن الرسمية، يقولون أنه لولاهم لماتوا.
وهل تظنون أنكم أحياء؟! تبًا لكم. هكذا قال الرجل لنفسه.
يكمل الرجل وابنه طريقهما، يصلان إلى نادي التليفزيون، وفي أثناء الدخول يخبرهما صاحب النادي، أن دخولهما سيكلفهما 1400 جنيه.
- لماذا يا رجل؟!
- الدولار بقى بـ 300 جنيه.
- وما ذنبي؟
- وما ذنبي أيضًا أيها الرجل العَفِن.
- يحاول اقناعه ب 1200 جنيه لأن ابنه صغيرًا؛ لن يأخذ سوى نصف مكان، فينجح في اقناعه. ليس من السهل أن يستغنىٰ أحدهم عن آية نقود، كما أنه ليس من السهل أن يدفع أحدهم النقود.
يسأل الفتىٰ أبيه؛ لماذا دائمًا يخبرونا بأن الدولار قد ارتفع عندما نريد شراء الماء، أو الطعام، مالنا ومال الدولار؟!
- الأغنياء يحبّون أن يرتفع سعر الدولار، كي ترتفع ثورتهم، ونزداد نحن فقرًا على فقرنا.
لا يفهم الفتى ما يردده والده، سيفهم عندما يكبر.
يجلس جميع من في النادي على الأرض، ينتظرون اشعال التلفاز، يهمس أحدهم في أذن صديقه:
- نحن السبب في كل ما نمرّ به الآن يا صديقي، قمنا بثورة، وثورة مضادة في نفس الوقت.
- لا، فعلنا ما بوسعنا من أجل الحرية، الطامعون في الحُكم هم من أوصلونا إلى هذه الكارثة.
- أنت مُحِق، والدّماء التي سالت لن ترحم بلادنا.
يستمع الولد إلى حديثهما ولا يدري عن أي شئ يتحدثان، يحاول أن يستمع أكثر، فيلاحظا أنه يتجسس ويقرران الصمت خوفًا من الإعدام.
يهمس في أذن أبيه متسائلًا:
- هل لدينا حرية؟
- نعم يا بني، لدينا حرية كبيرة، حرية التسوّل، حرية التبوّل، حرية التجوّل، حرية التنّفس، حرية الهمس الذي أهمسه في أذنك الآن.
- كيف يمكن للدماء التي سالت ألّا ترحم بلادنا.
- الدماء لعنة، إن سالت الدماء دون أن نقتص لها؛ حلّت لعنتها علينا، ربما نظن أنه لن يصيبنا أذىٰ، كنا نظن ذلك في الماضي، لٰكن انظر إلى بلادنا الآن. اصمت يا ولدي، نتحدث فيما بعد حتى لا يلاحظنا أحدهم.
أخيرًا يعمل التلفاز، ويظهر أحدهم بوجه مستدير ممتلئ كالبطيخ من فرط الطعام الذي يأكله، يتعجب الولد من لباس الرجل.
- كيف يمكن لأحدهم أن يرتدي مثل هذا الثياب يا أبي؟!
- بالسرقة والقتل ونفاق الحكام.
- ولم لا نفعل مثلهم؟!
- لا أدري ولكن هناك شئ ما يمنعنا.
يظهر الزعيم في التليفزيون، فتعلو صيحات التهليل والتطبيل.
يبدأ الزعيم كلمته بتهنئة الشعب بالعام الجديد، 2030، ويعدهم بأن مشروع المليون شقة لمحدودي الدخل سينتهِ قريبًا، وكذلك مشروع المليون فدان، ومشروع المليون كذبة، كلما كذبت صرت من رجالات الحكومة، الكذّابون يملئون الشاشات والوزارات والمناصب القيادية.
أخيرًا يطلب الزعيم من الفقراء أن ينتظروا لأن حال البلد لا يسرّ عدوا أو حبيب، ويأمرهم بالتصبيح على مصر كل يوم ب 1000 جنيه.
كما يعلن عن مشروعات لا حصر لها ستنتهي في 2060، ولكنها مشروعات تستحق الانتظار، منها مثلًا أن الكلاب ستبيض كي نستفيد ببيضها؛ وأن القطط سوف تتبول بترول، وأن النيل سوف يعود من جديد لأن الجميع يدعو على السدود التي جعلت النيل يجف. كما يعلن الزعيم أن هناك جهازًا جديد سيحول غازات الإنسان المقززة إلى غاز طبيعي نستخدمه في اشعال النار.
يهتف العراة، يهتف الجائعون، يهتف المنافقون، يهتف رجال الأمن، عاش الزعيم 3 مرات. فَعاشَ الزعيم وماتوا هم.
يعودان إلىٰ مكانهما، تحت احدى الكباري التي شيدها الجيش وأصابتها الشقوق سريعًا، يفكّر الفتىٰ في وعود الزعيم ويحاول تصديقه؛ لكن عقله يرفض.
يدخل عليهما رجل طويل عريض ثمين ذو شنب كث، إنه مندوب الضرائب.
- لماذا لا تأتِ لدفع الضرائب يا هذا؛ إنكم متعبون أيها الأوغاد الفقراء، هل علينا أن نأتِ من أجل أن تدفعوا الضرائب كي لا تسجنوا؟
- اعذرني، فأنا نسيت.
- الآن أريد ضريبة النوم.
- لكني أنام في الشارع.
- إنه شارع الحكومة.. ألديك طفل؟ إذًا أريد ضريبة زواجك.
- زوجتى ماتت من الجوع.
- أريد ضريبة الماء.
- نشرب زجاجة واحدة في الأسبوع، وندفع ثمنها غالِ.
- أين ضريبة السمْع؟
- لا نسمع سوىٰ أوامركم.
- ضريبة البصَر.
- لا نرىٰ سوىٰ ما تريدون أن نراه.
- آه كدت أنسى، أريد ضريبة الحياة وإلا قتلتك.
- أنا ميّت.
تصفيق حاد، أسدل الستار