شرطة مكافحة النقاب، وأحزان هاني شاكر



بدو أن مجموعة ما، حاولت خوض معارك كثيرة، من أجل حماية الأقليات، والحق في الحياة، والحرية، والأمان الشخصي، وحقوق المعتقلين، والحق في المحاكمة العادلة، في المشاركة السياسية، في حرية العقيدة، في المساواة، في العمل، في الرعاية الصحية، في التعليم، في البيئة، في السكن الملائم ومستوى معيشي لائق؛ لكنها لم تنجح في معركة واحدة. لأنها وجدت نفسها ضعيفة جدًا، في مواجهة مؤسسات لها جذور عميقة تُعادي كل هذه الحقوق وغيرها، تُعادي كلمة «الحقّ» بشكل عام.
لم تنجح المجموعة ذاتها في الوصول إلى عامة الناس من العُمّال، والفلاحين، والعاطلين عن العمل، ومن لا تكفي أجورهم أن يعيشوا حياة عادية. لم تنجح؛ أو قل لم تحاول إقناع كل هذه الطبقات الكادحة، بأن هذه الحقوق حقوقها وليست رفاهية، وبأن عليها المطالبة بها، لا أن تنتظرها كمنحة من غيرهم.
ونتيجة لانعدام النجاح أو المحاولة؛ شيّدت هذه المجموعة جُدرانًا وصلت إلى حد السماء، تحُول بينها وبين الناس، في القرى الأكثر فقرًا، والمناطق الشعبية المحرومة من الخدمات.
بعد أن فشلت هذه المجموعة في كل معركة خاضتها من أجل الناس ضد الدولة؛ قررت أن تبحث عن معركة أخرى قد تنجح فيها، وأن تخوض معركة حُرّيات بشكل مختلف، معركة من أجل «الإتيكيت» مثلًا، أو من أجل «الشكل العام» للبلد، معركة ضد مجموعة من النساء يختبئن خلف «نقاب» أو «برقع».
بعد الهجوم الإرهابي على حافلة أقباط المنيا بصعيد مصر، الذي أسفر عن مقتل 8 مواطنين وإصابة آخرين، في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. ظهرت هذه المجموعة لترفع مطالبها للدولة بأن عليها أن تقف بالمرصاد لظاهرة النقاب؛ على اعتبار أن النقاب له علاقة وثيقة بالإرهاب! تُطالب الدولة بأن تُطبق مزيدًا من القوانين الخانقة على مجموعة نساء. ورغم أن بعضهم يدّعي أنه ضد النقاب لأن النساء ترتدينه جَبرًا، لا تدينًا، إلا أنه يناقض نفسه ولا يمانع من أن يخلعن النقاب جبرًا، وبقوة ما يسمى «القانون».
لا أكتب بالطبع عن كل الذين يطالبون بحظر النقاب ممن لديهم فوبيا من كل فكر ديني، ولكني أكتب هنا عن مجموعة عاشت حياتها تزعم الدفاع عن حقوق الناس، ولما وصلت عند مسألة النقاب، اعتبروا من ترتدينه لسن من الناس!
قرأت لزميل يساري، في مسألة النقاب، «أن من حق النساء أن يرتدينه كما شئن؛ ولا يحق لأحد منعهن». ووجدت أحدهم يرد عليه ساخطًا ومعلنًا غضبه وثورته: «الجميع وقت الجد؛ يظهر على حقيقته، ويتحول من يساري إلى إسلامي متطرف». هكذا ببساطة، كل من له رأي لا يتفق مع صاحبنا عليه أن يخلع يساريته ويرتدي ثوبًا آخر، لأنه ثوب اليسارية قد ورثه عن أبيه! بالمناسبة، الإسلاميون ينقسمون في مسألة النقاب أيضًا، فالأستاذ في جامعة الأزهر، مبروك عطية: قال نصًا: «أحزن كلما رأيت سيدة ترتدي النقاب»، ووصفها بأنها «معدومة الأنوثة».
المسألة إذًا ليست إسلاميًا وغير إسلامي؛ وأعتقد أن من يتهم كل رافض لقانون منع النقاب بأنه إسلامي متطرف، لا فرق بينه وبين من يوزع صكوك الإيمان على المتفقين معه، ويُكفّر من يخالفه الرأي، يعطي الجنة من يشاء من المنقبات، والنار لغيرهن!
بعيدًا عن مسألة قبول رأي الآخر دون تخوين ومغالاة و«أفورة»، هذه المجموعة التي انتفضت فجأة ضد ارتداء النقاب متجاهلين أن النقاب قد يكون عقيدة لدى البعض، في عام 2010 صدرت دراسة تدّعي أن 18.2% من سيدات مصر منتقبات، فهل تريد إجبار كل هذه النسبة على التخلي عن عقيدة هن مؤمنات بها؟! وحتى لو كانت النسبة أقل من 1%، هل يحق لك ذلك؟!
يقولون في مبرراتهم لدعوتهم مثلًا، إنه على الدولة منع النقاب لأن من حقها ممثلة في السلطة التنفيذية أن تتعرف على وجوه المواطنين جميعًا لمحاربة أعمال العنف والإرهاب، والسرقة. وأغرب المبررات كانت أن النقاب قد يؤدي إلى الخيانة الزوجية، وأنه قد يتخفّى رجل في النقاب ليتسلل إلى منزل عشيقته ولا يراه أحد!
باختصار شديد، وهذا رأيي الذي قد يكون خطأً، لا ينتشر الإرهاب بشكل كبير إلا في بيئة خالية من الديمقراطية، وخالية من حرية الرأي والتعبير بما فيها حرية الصحافة والإعلام. لا ينتشر الإرهاب إلا في ظل نظام يمارس الإرهاب على مواطنيه. لم تتسلل داعش مثلًا إلى القاهرة بسبب النقاب، ولم يتحول ضابط الجيش السابق هشام عشماوي إلى إرهابي بسبب النقاب، وكمائن تنظيم «أنصار بيت المقدس» في سيناء ليست بسبب النقاب، وتفجيرات الكنائس كانت دائمًا بسبب خلل أمني وليس بسبب النقاب.
أما عن كشف الوجه لدواع أمنية، فيمكن كشف وجه المرأة للتأكد من هويتها بالاستعانة بامرأة مثلها. وطبعًا موضوع الخيانة الزوجية ليس مبررًا أكثر منه هَذَيانًا،لأن الخيانة الزوجية وُجدت قبل أن يكتشف الإنسان صناعة ملابسه الداخلية.
أزعم أن كل من طالب بقانون لمنع النقاب، لم يطالب به لمحاربة الإرهاب ولا يحزنون، وإنما لأنه لا يحب شكل النقاب، وأن كاتب هذا المقال لا يدافع إلا عن أن ترتدي كل سيدة ما تريد.
إذا اتفقت معي عزيزي المطالب بوضع قانون لمنع النقاب في الأماكن العامة، على أنك مجرد كاره لرؤية النقاب لأنك تعتبره منظرًا غير حضاري، فعليك ألا تسلك نهج الأستاذ هاني شاكر عندما نصب نفسه قائدًا لشرطة مقاومة المهرجانات الشعبية ومدافعًا عما سماه الفن الراقي؛ بأن طلب من الدولة إلغاء حفل مغني المهرجانات «حمو بيكا» في الإسكندرية، فلبت الدولة طلبه، وكأنه بوقف حفل شعبي ستختفي المهرجانات ويطفح على سطح الساحة الفنية أغان شبيهة لعيد ميلاد جرحي أنا وألبوم أحزان هاني شاكر!
أحزان هاني شاكر لن تطفح على السطح، وكل ما في الأمر أن مغنيا فقير ماديًا وفنيًا، لن يكسب بعضًا من الأموال بعد إلغاء حفلته. والإرهاب كذلك لن يختفي بمنع النقاب، دعني أقترح عليك اقتراحًا لا يُباعد بينك وبين الناس أكثر وأكثر؛ وأيضًا على الفنان هاني شاكر: الأخير عليه أن يسمح لأغاني حمزة نمرة مثلًا بأن تُذاع في محطات الراديو بدلًا من منعها عن الناس بزعم أن بعضها يعادي الدولة؛ وهو ما سيفتح المجال لأن يقارن الناس بين المهرجانات وغيرها من الأغاني التي تحمل قيمة فنية. أما أنت فعليك أن تعبر عن آرائك التنويرية المتحررة دون تعال على المجتمع، دون فشخرة فارغة وتخوين. وأن تترك الحرية للجميع، يقتنعن بالنقاب أوب غيره، أما الإجبار فلن يؤدي إلا لمزيد من الكراهية في المجتمع.
في الحقيقة إنني أتعجب من تحول بعض المناضلين من أجل حقوق الناس دون أن يدركوا إلى «دولجية» فجأة عند مسألة النقاب؟ والدولجي هو من يرفع شعار «الدولة فوق الجميع» وليذهب الجميع إلى الجحيم، مع أن الدولة هي الجميع أصلًا. الوقوف في نفس صفوف الطرف الأقوى ضد الأضعف، ليس نضالًا مبهرًا ولا دعوةً للحرية.
إجبار سيدات على خلع النقاب، كإجبار غيرهن على ارتدائه، تعددت الأشكال والقمع واحد.