مرحبًا بكم في المحرقة !

AFP/Getty Images


لم يكن هتلر واحد، ولم تكن محرقة واحدة، هناك مئات من "هتلر" تجدهم يحكمون بلادنا من المحيط إلى الخليج، وهناك محارق عديدة تقام في شتى بقاع الأرض، ليست بالضرورة أن تكون محرقة بالنيران، هناك محرقة فكرية تستهدف كل ذي فكر، محرقة بالقتل الجماعي عن طريق الإعدامات أوالتصفية الجسدية، أو محرقة بالسجن، أو بالتغريب خارج الوطن.

وكما أن محرقة هتلر الأولى كانت تستهدف عائلات كاملة، جاء "الهتارلة الجدد" هنا في مصر ليحكمونا ويقيمون المحارق ضد عائلات كاملة، لأن هذه العائلة أو تلك بها شخص معارض، وهنا تقام المحارق حتى لو لم يحرقوا بالنيران. وتحكمنا عقليات لو استطاعت إحراق كل مخالف لفكرها في ميادين عامة لفعلت، لولا فقط أن هناك بعض المساعدات المالية قد تنقطع عنها بدعوى الحفاظ على حقوق الإنسان.

- تبدأ المحرقة مع عائلة القيادي الإخواني محمد البلتاجي، وإن كان قد صرح تصريحات تحريضية سابقة، إلا أنه يجب أن يحاكم فقط على ما أدلى به من تصريحات تحريضية، لا أن تتوالى عليه أحكام الإعدام في قضايا وهمية، والذي حدث لأسرته لا يتحمله عقل، تقتل ابنته أسماء في 14 أغسطس 2013 أثناء فض اعتصام أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي، وبعدها بأيام قليلة يتم اعتقاله وتتوالى عليه أحكام الإعدام، ثم تُحبس زوجته ويحكم عليها بالحبس بدعوى محاولة تهريب هاتف، كما أن ابنه "أنس" ما زال سجينًا حتى الآن، وابنه الآخر عمار سجن بدعوى اتهامه بالتحريض على العنف، ثم أخلي سبيله واضطر لمغادرة البلاد. أليست هذه محرقة؟!

- وتتعرض عائلة القرضاوي أيضًا لاضطهاد جماعي بسبب شخص واحد يكرهه الأمن "الشيخ يوسف القرضاوي" ففي يونيو الماضي أوقفت السلطات المصرية عُلا القرضاوي وزوجها حسام خلف بدعوى اتهامهما بالانتماء إلى جماعة أُسست بالمخالفة للقانون، والتخطيط لتنفيذ عمليات إرهابية تستهدف الأمن ومؤسسات الدولة. وفي أغسطس الماضي، اتخذت السلطات المصرية قرارًا بالتحفظ على أموال 6 من أبناء القرضاوي، بينهم علا. واتهمت منظمة "هيومن رايتس ووتش" السلطات في مصر بممارسة انتهاكات بحقها، وأن السلطات المصرية "انتهكت مرارًا حقوق علا القرضاوي وزوجها القيادي بحزب الوسط، منذ توقيفهما في 30 يونيو"، ويتم التجديد لهما على ذمة التحقيق منذ ذلك الحين.
كما أن الزوجين احتُجزا في الحبس الانفرادي 70 يومًا على الأقل  في زنازين انفرادية ضيقة دون نوافذ أو تهوية على مدار 24 ساعة، ولا يتلقيان الغذاء الكافي، ورفضت السلطات السماح لذويهما ومحاميهما بزيارتهما.

- حدث الأمر ذاته مع شقيق الإعلامي معتز مطر، وهو مذيع قناة الشرق الذي تكرهه الدولة لمواقفه المعارضة بشدة لسياسات السلطة الحالية، وكان رد السلطات عليه أنه في 13 يوليو 2016 ألقت أجهزة الأمن القبض على منتصر مطر شقيق الإعلامي معتز مطر، وقالت المصادر للصحافة حينها، أنه هارب من 20 قضية! ولا أدري إن كان أيًا من نظام مبارك قد وصل إلى هذا العدد من القضايا أم لا؟! حدث هذا بعد أن حكم على معتز مطر  بالحبس سنتين وكفالة 5000 جنيه، لاتهامة بالتحريض ضد مؤسسات الدولة ونشر الشائعات والأخبار الكاذبة.

- أما سمية ماهر 25 عامًا، وهي ابنة عضو مجلس الشورى السابق عن مدينة دمنهور ماهر أحمد خزيمة الذي اعتقلته أجهزة الأمن في وقت سابق بتهمة الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين والتحريض على أعمال العنف، وحكمت عليه المحكمة بالسجن 18 عامًا، فقد أخفتها قوات الأمن قسريًا بعد مداهمة منزلها واعتقالها فجر يوم 17 أكتوبر الجاري. وبحسب والدتها سحر صبري "فتشت قوات الأمن المنزل واستولت على عدد الأجهزة الإلكترونية من بينها جهاز حاسوب محمول خاص بالمنزل، وهواتف شخصية لسمية وأخواتها الثلاث ووالدتهم" واعتقلت قوات الأمن سمية ووالدتها وأفرجت عن والدتها، ولكن سمية ما زالت قيد الاختفاء القسري. وكان زوجها قد اعتقل مؤخرًا وتم الإفراج عنه.

- وقد تكون المحرقة فكرية، فنظام لا يحب المحامي الحقوقي جمال عيد، لا مانع لديه من أن يحرم آلاف من أطفال الفقراء من القراءة والإطلاع بسبب مكايدة فيه، فالمحامي يدرك جيدًا أن الإنسان الواعي والمثقف يستطيع أن يفهم حقوقه ويدافع عنها ويساهم في تطوير مجتمعه، فقرر محاربة الفقر الثقافي المنتشر في الأحياء المهمشة، وبعد  حصوله على جائزة "رولاند بيرجر" للكرامة الإنسانية في ألمانيا، في نوفمبر٢٠١١، وقدرها 340 ألف يورو، لنشاطه في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن حرية الفكر والتعبير في الوطن العربي،  قام بتخصيص قيمة الجائزة لإنشاء مكتبات عامة في الأماكن الشعبية المهمشة، لخدمة الفقراء ثقافيًا، وأسماها "مكتبات الكرامة"، وأنشئ 5 مكتبات عامة في أحياء طرة ودار السلام والزقازيق وبولاق الدكرور والخانكة، تخدم المكتبات نحو 40 ألف مواطن، وكما اعتمدت على جائزة "عيد" ومتطوعين من المجتمع المحلي من أجل تنظيم ورش عمل ومحاضرات لرواد المكتبة، اعتمدت في استمرارها على التبرعات العينية، فرفض "عيد" أي تبرعات مالية وطلب ممن يريدون التبرع المادي أن يستبدلوه بالكتب.
كان للمكتبات نشاطات مختلفة، منها تشجيع شباب المناطق الشعبية على الكتابة في جريدة محلية تصدرها المكتبة، والتعبير عن آرائهم وعن مجتمعاتهم المهمشة.
فما كان من هذه السلطة "الهتلرية" إلا أن أقامت محرقة ضد مكتبات الكرامة (المجانية)  وأغلقت كل المكتبات من دون سند قانوني وبأوامر من أمن الدولة، ورغم أن مشيرة خطاب مرشحة اليونسكو السابقة زارت مكتبة من مكتبات الكرامة واطلعت على الكتب واعترفت بأنها كتب لها قيمة ويجب أن يطلع عليها أولادنا، إلا أنها لم تتدخل من أجل فتح مكتبات الكرامة من جديدو. وأغلق النظام المكتبات وكأنه يغلق أوكارًا لتجارة المخدرات مثلًا، أو يضع الشمع الأحمر على مخزن للسلاح!

- كما أن المحرقة قد تكون في عملك وفي سفرك وفي كل تفاصيل حياتك، عندما تتقدم للالتحاق بالجيش يسألونك عن أقاربك السياسيين، وعند التقدم للعمل ترفض لأنك ابن فلان السجين، وقد تفصل من الجامعة، وقد يتم اعتقالك بدلًا من أخيك، أو العكس. عندما يحكمك هتلر فمرحبًا بك في المحرقة الجماعية.


يوميات متطوع في حملة "عشان نبنيها"




عندما علمت أن كل العالم تحالف على مصر من أجل القضاء عليها، وبأن هناك مخططات ماسونية وصهيونية وإيرانية وأمريكية وصربية ومخططات من قوى ليبرالية وأخرى دينية وعلمانية واشتراكية، وعندما علمت أن منظمات حقوق الإنسان في كل العالم هي في الأصل مؤسسات وُجدت من أجل القضاء على مصر وأن منظمات المجتمع المدني بشكل عام هي في الأصل منظمات تم إنشاؤها لأن القوة الماسونية العظمي التي تحكم العالم أعدتها خصيصًا منذ مئات السنين لأنها كانت تعلم بأن السيد الرئيس البطل المغوار قائد الحرب والسلام وزعيم الأمة العربية والإنجليزية وبطل العالم في ركوب الدراجات والانتفاضات وأستاذ الاقتصاد والعلوم وسياسة الإفقار المتدين الورع الذي لا يخشى من ارتكاب المذابح في أي وقت وفي أي مكان في سبيل محاربة الإرهاب نيابة عن العالم.. عندما أدركت كل هذا قررت الدخول في عالم السياسة، وكان أول عمل سياسي شاركت فيه، هو المشاركة في التفويض للخلاص من كل العملاء المنتشرين في الأزقة والشوارع والميادين وفوق الأسطح وتحت الأرض، ولا أدري كيف وصل عدد العملاء الخونة إلى كل هذا الملايين التي لا تعد ولا تحصى، ولكن على كل حال أن أؤمن بأننا يجب أن نعدم كل عميل يعترض على نظام الحكم الجديد وكل عميل لا يحب الأنظمة السابقة ويعارضها.. لقد عرضت حياتي للخطر فداءً لمصر وذلك عندما شاركت في التفويض وهتفت بأعلى صوتي "أُفرم يا سيسي، أُفرم يا سيسي"، ما زلت أذكر الطائرات التي كانت تحتفي بوجودنا بأن تفرغ فوق رؤوسنا كوبونات الهدايا، كنت أخشى حينها أن تدخل الكوبونات في عيني، ولكن الحمد لله لم يحدث، وعيني بخير إلا من بعض الاحمرار.
انضممت بعدها لحملة تحيا مصر، مصر التي في خاطري وأموالها في جيب أبي، أبي مناضل قديم كان في الحزب الوطني الديمقراطي يناضل من أجل حرية ترشح جمال مبارك وحقوق الحكومة في الاستمرار أطول فترة ممكنة، وتظاهر أبي في ثورة يناير دون خوف، تظاهر ضد العملاء والخونة الذين خرجوا يطالبون بإسقاط النظام، وأنا ورثت النضال عن أبي، كما يقولون "فولة واتقسمت نصفين"، ولما انضممت لحملة "تحيا مصر" انتظرت كثيرًا من أجل أن تحيا، ولم تحيَ حتى الآن، ولكني ما زلت أصر على تكملة مشوار النضال، وانضممت إلى حملة "يلا نبنيها"، وهي حملة شعبية كبيرة تضم كل فئات المجتمع "راقصين، فنانين، لاعبي كرة قدم، ضباط شرطة، ضباط مخابرات، قضاة، أعضاء مجلس نواب، إعلاميين، رجال أعمال".. أعلم جيدًا أن هناك من يحاول تغيير الحقيقة ويقول بأن هذه ليست فئات الشعب الحقيقية، وهؤلاء يحاولون بشكل خبيث تشويه صورة  مصر أمام العالم؛ فلماذا نترك كل هذه الفئات "الشبعانة" التي ذكرتها ونتحدث عن 30 مليون مصري تحت خط الفقر؟ ولماذا نتحدث عن 27% لا يقدرون على توفير احتياجاتهم ولا نتحدث عن الذي لو طلبوا لبن العصفور لوجدوه؟  ولماذا نتحدث دائمًا عن أن مصر خرجت من التصنيف العالمي في التعليم، ونتجاهل أن مصر دخلت كأس العالم؟! ولماذا نتحدث عن حرية الصحافة طالما لدينا حرية التبول وقتما شئنا؟ ولماذا نتحدث عن الفساد طالما إنه في صالحنا وأن زيتنا في دقيقنا؟ ولماذا نتحدث عن الفشل طالما أن لدينا 7 آلاف سنة حضارة؟ ولماذا نتحدث عن الخسائر طالما أننا كسبنا حرب أكتوبر منذ 44 عامًا؟ إن ذكر الإيجابيات واجب وطني، وذكر السلبيات مخطط خارجي لا غرض منه سوى القضاء على هذا الوطن، وحملة "يلا نبنيها" تذكر الايجابيات القديمة التي لم نتدخل فيها إطلاقا، وتتحدث عن الانجازات، يجوز أنني لا أعلم ما هي الإنجازات حتى الآن؟ ولكن يكفي أن مصر يحكمها رجل يرتدي بدلة عسكرية

وفي يوم قررت النزول إلى منطقة شعبية صاخبة لتصوير فيديو عن حملة "يلا نبنيها" واستقبلوني هناك بحفاوة شديد، منهم من كان يخرج أصواتًا يصدرها النائم من أنفه، ومنهم من كان يضع إصبعه في أماكن حساسة من جسدي قائلًا: "ما تيجي نبنيها ونجيب عاليها واطيها".



الصبُّ في مصلحة محدود




اسمه مواطن، ولقبه معدوم، ومُسجّل في أوراق الحكومة باسم "محدود الدخل". ولأننا لا يمكننا مخالفة الحكومة سنطلق عليه محدود، إلى أن يصير له صوت مسموع ومخيف في وقت لا يعلمه إلا الله، وحينها نناديه باسمه الحقيقي "مواطن". لم يتوقف "محدود" عن التفكير في القضية، والقضية بالنسبة له ليست سوى ألا يتوقف أولاده عن التعليم، إنهم يتعلمون الجهل في المدارس، ولكنه يعتقد أنهم يتعلمون. القضية بالنسبة له ألّا يكُف أولاده عن التهام الطعام، قد يأكلون الكلاب والقطط وحشائش الأرض على أنها خراف وأرانب وخضروات، ولكنه يعتقد أنه يطعم أولاده أفضل الأطعمة على الإطلاق.

القضية بالنسبة له هو أن يرتدي أولاده ملابس الشتاء الجديدة، حتى لو كان يخدعهم ويقول أنها جديدة، ولكنها ليست كذلك، فهو مُشترٍ معروف في سوق الملابس المستعملة. يعمل محدود في وظيفته منذ أكثر من 29 سنة، حياته لا تتبدل، ولو تبدلت لغتنا الأم، لو رأيته ذاهبًا إلى عمله حسبته يرتدي ملابس العمل ذاتها منذ أن بدأ العمل.

كل شيء قد تغير في هذا الوطن، المنتخب الوطني لم يعد بنفس لاعبيه، الثورة على الفساد تغيرت وحل مكانها ثورة على من ثاروا وعلى من يقولون الحق، الصحافة لم تعد مهنة الصحفيين ولكنها صارت وظيفة لرجال الأمن، الصحفيون والسياسيون الذين كانوا يظهرون في وسائل الإعلام لأنهم شاركوا في الثورة أصبحوا يدخلون السجن ويظهرون في وسائل الإعلام وهم يرتدون البدلة البيضاء أو الكحلي في قفص حديد، الأسعار لم تعد ترتفع 2% كل 3 أعوام ولكنها ترتفع 200% كل ثلاثة أيام، إنها ترتفع إلى حد السماء، و"محدود" سعره ينخفض.

كل شيء تبدل في هذا الوطن إلا ثلاثة أشياء، فساد من يحكمونا، ونفاق من يتحدثوا في أمرنا، ومرتب هذا الرجل المسكين. انتشرت الشحاذة في طول البلاد وعرضها، في شركاتها ومصانعها ومطابعها ودور نشرها، في شوارعها وحاراتها وأزقتها، في مدارسها وجامعاتها ومنابرها، في خطاباتها الرسمية والسرية، في خطاباتها الدينية والسياسية والفنية، في وسائل المواصلات ووسائل الإعلام، في الأتوبيسات العامة والصحافة الخاصة، ولكن "محدود" ما زال يقاوم ولا يريد أن يكتب عند الحكومة شحاذًا.

يقولون إن كل قرارات السيد الرئيس تصب في مصلحة محدود ورفاقه، حتى إنك لو فتحت مصلحته ستجد بها قرارات رئاسية عديدة "قرار برفع أسعار الأدوية، قرار برفع أسعار الطعام، قرار بتعويم الجنيه، قرار بإغراق المواطن، قرار بإقرار الضرائب، قرار بخفض الدعم، قرار بزيادة أسعار الإنترنت والكهرباء والاتصالات" وغيرها من القرارات التي صبت في مصلحته مباشرة.. ولا أدري كيف اكتسب "محدود" هذه الطمأنينة بعد كل هذه القرارات، ولا أدري كيف يعيش؟!

راتبه 2000 جنيه في الشهر، ويدفع منهم ألفًا لإيجار المنزل، وعليه أن يكمل كل حياته هو وأولاده بما تبقى.. لكن على كل حال، كل ما يحدث يصُب في مصلحته، ثم إن السيد الرئيس ذاته قال يومًا: "لو عايزين استقلال حقيقي متاكلوش ومتناموش، يا خسارة كل أملنا شوية الرز وشوية السكر؟".. هكذا قال بعد أن اختفى السكر فترة طويلة من حياة الفقراء، ولما ظهر السكر اختفت ملامح الحياة ذاتها. هو دائمًا لا مشكلة لديه في أن يجوع الشعب أو يعطش، المهم أن نكون "كده"، كيف لمن يخفي المواطنين في مقار الأمن الوطني أن يهمه اختفاء الطعام؟!

لا أدري كيف ستكون الحياة في 2019 بالنسبة لـ "محدود"؟ ولا أدري إن كانت مصلحته ستتحمل كل القرارات الجديدة أم لا؟! فخطة الحكومة لهذا العام ليست أن نتحول إلى دولة نفطية، ولا صناعية، ولا معمارية، ولا في خطتها أن يكون هناك دولة، ولا شبه دولة، الخطة الوحيدة هي أن يتحول الوطن إلى فندق لا خدمات فيه، والمواطن إلى سائح يدفع مبالغ باهظة وضرائب لا حصر لها، سيرفعون الدعم عن كل شيء في هذا العام، هذا بعد أن يرفعون المواطن ذاته، الأسعار لن تتوقف عن الارتفاع، سيخترعون كل ساعة ضريبة جديدة. ضريبة الكلام أو السكوت، ضريبة ركوب السيارة وضريبة السير على الأقدام، ضريبة الطعام وضريبة الجوع.

إنهم يسرقون حياته

Ap
مدونات الجزيرة

كنت سابقًا ممن يؤمنون بأن السجن لا يقدر على حبس أفكارك، وأدركت لاحقًا أن السجن قادر على فعل ذلك، وقادر على حبس روحك وفكرتك وصوتك حتى ينساك الناس. السجن كما قال الماغوط "أن تكون غير مطمئن.. حتى إلى أحلامك". وهذا ما حدث مع علاء عبد الفتاح، السجين الشهير المنسي الذي اعتاد الناس على سجنه.

لا أتذكر كم مرة أردت الكتابة عن علاء، ولكني أعلم أنني حاولت كثيرًا فلم أستطع. الكتابة عن علاء مُرعبة، وثقيلة جدًّا، وتجعلني أختنق، إنهم يسرقون حياته أمام أعيننا. ثم إن الكتابة عن السجناء بشكل عام قد تقودك إلى عزلة لا يعلم نهايتها إلا الله. يقولون إن في السجن نحو 60 ألف سجين، وإذا كتبت قصة كل واحد فيهم سأحتاج إلى 60 ألف مقال، و60 ألف حياة، فبعد كل كلمة أكتبها عن سجين أشعر بأن الحياة توقفت وأحتاج إلى أخرى، ولكني سألت نفسي سؤالًا: "إذا شعرنا بالموت لأننا نكتب عن السجناء فقط، فما بال السجناء أنفسهم؟".

هل أكتب عن علاء الذي منعوه من قراءة الكتب داخل محبسه أو من الاطلاع على مجلات ميكي ماوس؟ إلى أن تقلصت أحلام أسرته من الإفراج عنه إلى محاولات بائسة لإدخال الكتب إليه، فرفعت أسرته دعوى ضد رئيس الوزراء ووزير الداخلية ورئيس مصلحة السجون يطالبون فيها بإدخال الكتب إلى سجين في حبس انفرادي.. وعندما تتساءل ما الخطر الذي قد تسببه الكتب أو مجلات ميكي ماوس قد يبدو السؤال ساذجًا، لأنه لا معنى لذلك سوى أن الدولة لا تحب علاء، ولا تحب أن تجعل أيامه خلف الجدران تمر سريعًا.

الكتابة عن علاء مؤلمة، لأنك ستضطر إلى الكتابة عن بدايته، ليست بداية السجن، ولا بداية عودته إلى مصر، ولا بداية الثورة، لكنها بداية مولده.. وُلد علاء فوجد أباه "أحمد سيف الإسلام حمد" في السجن! وفي هذا قال سيف: "أنا آسف إني ورثتك الزنازين ولم أنجح في توريثك مجتمعًا يحافظ على كرامة الإنسان، وأتمنى أن تورث حفيدي خالد مجتمعًا أفضل مما ورثتك إياه". ولكن خالد ابن علاء حتى كتابة هذه الكلمات لم يرث المجتمع الديمقراطي الذي تمناه جده له، فخالد أيضًا ولد ليجد والده في السجن!

أما سيف الغلابة أحمد سيف الإسلام فقد توفي وترك علاء سجينًا، وكانت شقيقته سناء سجينة هي الأخرى لأنها طالبت بالإفراج عن علاء ورفاقه في قضية مجلس الشورى، خرج رفاق علاء في القضية بعفو رئاسي، عدا هو وطارق موكا، وقد قال سيف سابقًا إنه "لن يطلب عفوا رئاسيا من أحد لنجله، ولكنه يريد فقط المحاكمة العادلة". وهذا ما طلبه علاء نفسه أثناء محاكمته "المحاكمة العادلة" فاتهموه بإهانة القضاء! ودائمًا ما يؤخذ كل كلام علاء ومواقفه إلى المحكمة، في أحداث ماسبيرو حاكموه عسكريًا واتهموه بسرقة دبابة، لموقفه حينها من مساندة الأقباط.

سُجن علاء، كم مرة؟! لا أدري، ولكنه سجّل رقمًا قياسيًّا في عدد مرات الاعتقال. سُجن في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، ثم في عهد المجلس العسكري، وبعدها في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، والرئيس السابق المؤقت عدلي منصور، وأخيرًا في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي.

وفي 19 (أكتوبر/تشرين الأول) الجاري تنظر محكمة النقض الحكم الصادر ضد علاء في قضية مجلس الشورى بالحبس 5 سنوات والمراقبة 5 سنوات، بعدما أمضى في السجن 3 سنوات ونصف، وفي انتظاره حكم في قضية أخرى تم تأجيلها 3 أشهر من دون داع وهي قضية "إهانة القضاء".

قبل أن يُسجن علاء قال: "موتوا من الرعب على الناس اللي في السجون واتكلموا عنهم خلونا نطلعهم، لأن السجن والتعذيب مش رومانسية".


سجناء يرتدون الميري 2

gettyimages

بالأحمر

الشاويش راضي


هو “راضي” فقط عندما تعطيه مما أعطاك أهلك، علبة سجائر، ورقة ب 5 جنيهات، وأكاد أجزم أن الـ 5 جنيهات كانت تفعل ما لا يتخيله عقل مع هذا الراضي، لكن مفعولها يدوم يومًا واحدًا وربما ساعات، ولكنه على أي حال كان موفرًا للغاية وليس جشعًا، 5 جنيهات أو علبة سجائر ترضيه جدًا، يناديك بعدها بأفخم الألقاب، وكفيلة بأن تجعل السجين يتضامن مع هذا السجان الذي تسحره 5 جنيهات فقط، أو علبة سجائر رديئة. ولكن هذا الشعور بالتضامن قد يتحول إلى غضب لا نهاية له، عندما تعلم أن راضي أبلغ رجال المباحث بأن في حوزتك راديو، أو هاتف محمول، أو  أنك تجلس مع فلان الفلاني أوقاتًا طويلة. كانت سياسته مع السجناء وإدارة السجن تشبه سياسة النظام الحالي، فالنظام يحاول إرضاء كل المتضادين، روسيا وأمريكا، السعودية وإيران، وهكذا، وراضي كان يحاول إرضاء السجناء من أجل السجائر، والإدارة من أجل المكافآت الشهرية.


الشاويش أيمن


كان فمه كبيرا جدا، يشبه فم الخليج، عندما يضحك تظهر أسنانه الضخمة التي تشعرك بأنه من مصاصي الدماء، شاربه ضخم ربما يصل إلى لسانه الذي يشبه لسان القرود، طويل طول باب الزنزانة.
الشاويش أيمن سخّر زنزانة صغيرة بها 5 مساجين ليخزن بها أشيائه التي هي أشيائنا، كان يبلطج علينا عندما دخلنا سجن أبو زعبل، وكان له قانون صريح “على كل زنزانة أن تعطه مما لديها حتى يفتح لنا الزنازين، كل طلب له ثمن، هكذاوبكل صراحة “.
كانت لدينا زجاجات “حاجة ساقعة”، اشتريناها من الكنتين لأنه كان فارغًا إلا من سواها، وكان لا بد أن نصرف تذاكر الشراء لأنها ستنتهي آخر الشهر.
دخلت “الدورة” وفتحت زجاجة الحاجة الساقعة وأفرغت فيها بعض الماء، ماء مني وليس من الصنبور؛ وكنا حينها في أوج الشتاء فكان الماء كثيرًا.
أعجبت الفكرة أحد السجناء، فدخل الدورة بعدي بزجاجة أخرى وفعل مثلي، وأغلقناهما بشكل جيد، وظللنا نضحك ونرقص وننتظر اللحظة التي يأتي فيها الشاويش أيمن؛ لحظة الانتقام؛ ولما وصل تبرعت أنا لأول مرة لأعطه زجاجتي، أعطيته واحدة في المرة الأولى وقلت:
– أحلى زجاجة حاجة ساقعة لأحلى شاويش أيمن في الدنيا.
نظر لي متعجبًا فكان لا يحبني لشعوره بأنني أتعالى عليه ولا أعطه من زيارتي أي شئ، فقلت:
– يا عم أيمن متزعلش مني بقى، خلاص احنا حبايب، طيب والله لا تاخد كمان واحدة، هات يا ابني كمان زجاجة حاجة ساقعة لأحلى شاويش في منطقة سجون أبو زعبل.
فشخ فمه وابتسم ابتسامة مصاصي الدماء، ونظر لي نظرة رضا.
ولا أدري هل اكتشف الشاويش أيمن أن الحاجة الساقعة كانت ممزوجة بالبول أم لا. ولكني كنت أتمنى ألا يكتشف ويشرب منها كما يشرب الظمآن في الصحراء.


الأمين مبروك
الشاويش مبروك، شاويش برتبة أمين شرطة، لذا له وضعه وسط الشاويشية، كما أنه وبلا فخر كان يدرس في كلية الحقوق بجامعة القاهرة قسم التعليم المفتوح، حتى يحصل على شهادة جامعية ويصير ضابطًا، ورغم أنه مبروك لا يستطيع القراءة جيدًا، إلا أنه كان واثقًا من نجاحه في الكلية. ولما سألته عن سبب إصراره على التعليم في هذا العمر؟ فاجأني بأنه عندما يتخرج من الكلية، سيحق له أن يعلق نجمة، ويصير ضابطًا. كان يقولها وهو يتأمل نفسه يرتدي بذته وعليها نجمة الضباط.
في يوم  نظم زملائي الصحفيين وقفة على سلم نقابة الصحفيين، تطالب بالإفراج عن المصور الصحفي محمود أبو زيد شوكان، وعني، فنشرت جريدة الشروق خبر على الغلاف ووضعت صورتي وصورة شوكان.
كان مبروك يحب الشهرة جدًا، ويحب أن يخدم كل من يذكر اسمه في أي جرنال، فما بالك لو كانت صورته هي التي نشرت! كان عم محمود زميلي في الزنزانة يعلم ذلك جيدًا، فوجدته يخبر الشاويش أيمن بأن العالم في الخارج غاضب لأجلي وبأن الجرائد مقلوبة، كان يزودها جدًا، فأنا لم يذكر اسمي في الجرائد إلا في أخبار القضايا ومقالات الروائية أهداف سويف في جريدة الشروق.  لم يصدق مبروك أن صورتي في الجرنال إلا بعد أن رآها بنفسه، نظر للصورة ودقق فيها قليلًا، ثم نظر إليّ وقال:
= صحيح والنبي يا عم محمود، ده هو بجد!.
ومن وقتها بدأ يعاملني معاملة خاصة، حتى أنه كان يفتح لي باب الزنزانة ويقول لي “ما تخرج بره الزنزانة تشم هوا شوية” ، كما أنه لم يمانع من زيارتي لرفيق صبري في زنزانته، أو أن يأتي ياسين ليجلس معي في. أذكر أنني يومًا قلت له أريد أن يجلس معي ياسين قليلًا، فلم يتردد وذهب إلى زنزانة ياسين، وأيقظه من نومه:
– اصحى يا ياسين واغسل وشك بسرعة وتعالى عشان الأستاذ أحمد عايزك.
ياسين كان سيقتلني لأنه استيقظ من النوم مبكرًا ولكن عجبته الفكرة جدًا، وفي يوم تبدل حال مبروك، فعلمنا أن بريق الشهرة قد انطفى، وجاء عم محمود من جديد ليريه خبرًا على الصفحة الرئيسية في جريدة ديلي نيوز ايجبت  المحلية التي تصدر باللغة الانجليزية، وقال له أنها جريدة عالمية، ولم يصدق مبروك ما يراه وقال لي وهو يضحك وينبهر أكثر:
= ده بالانجليزي يا أستاذ أحمد، بالانجليزي صح؟
لم أرد ونظرت له متكبرًا فقال عم محمود:
– طبعًا بالانجليزي، وفي جرايد بلغات تانية كتير، بقول لك عالمي.
ومن وقتها لم يرفض مبروك لي أي طلب، وأعتقد أنه كان يريد توقيعي على بدلته الميري لينال شرف أن أحد الصحفيين الذين تنشر صورهم في الجرائد قد وقع له على البدلة، ولما حصلت على براءة كان مبروك قد أخذ مني وعد بأنني لن أنسى جدعنته ووقوفه بجانبي قد أخذ مني وعدا بأن أكتب قصته، لا أعلم ماذا كان يريد أن أكتب في قصته بالتحديد، ولكن  ها أنا أكتب، فهل سيقرأ؟!
***
ملحوظة: أسماء الشاويشية ليست حقيقية، وتم تبديلها بأسماء من الخيال حرصًا على سلامة من يتعاملون مع السجناء بشكل إنساني.

بكل شجاعة.. أنا خائف




بكل شجاعة، دعني أُخبرك بأنني خائف إلى ما لا نهاية، وأحيانًا أرتعد من كل شيء في هذا الوطن، صَغيرًا كان أَم كَبيرًا، ولا أدري لِمَ أُرَاقِب كُلّ مَن حَولِي لا إراديًا، وأشك في كل من يمرّ بِجَانبي، وأُحدّق في كلّ سيّارة تقف بجوار الأرصفة وأظُن أنها جميعًا تطاردني أو تتربّص بي، لشيء لا أعلمه، أو قُل أنني أعلمه جيدًا كما أعلم اسمي ولكني أُمَثِّل دور الجاهل، لأنني خائف. إنني خائف من الاعتراف بأنني هَذا الكَاتِب الذي ينشُر مَا يَكتبه في مواقع محجوبة، وربّما لو قابلني أحدهم وَسَأَلَنِي: "أنت فلان الذي يكتب؟". أقول له: "لست هُو، أَنَا أُعمل في السباكة، أتريد إصلاح أي صنبور في هذا الوطن؟ أم أن كل شيء على ما يرام ؟". قد يبدو الشعور بالخوف من كونك تكتب أو تعمل بالصحافة مؤلمًا، لكنه أحيانًا يكون مُضحكًا مُبكيًا. على كل حال، الوطن يحتاج إلى السبّاكِين والنجّارِين والفواعلية أَكْثَرَ مِنَ الكُتّاب والصّحَافيين.. هكذا قال لي أحدهم وهو يقرأ جريدة قَومية كاذبة ويجلس على إحدى المقاهي الشعبية في منطقة مَعْدُومَة.

أنا مستمع جيد، ولا أمّل سماع القصص والروايات في أي مكان وزمان، وأحيانًا أضع الطُّعم لأحدهم كي يتكّلم ويُخرج ما بداخله، فإما أن يلعن اليوم الذي وُلد فيه، أو يَلْعَن المسئول الفلاني ويسب الحكومة ورئيسها وربما يسب البلد بأكملها، وقد يلعن المعترضين على قرارات الحكومة أحيانًا، المهم أن اللعنة لا تخلو من الحديث، والأهم أنني لا أتحدث أبدًا، وأكتفي بتحريك رَأسْي ورسم ابتسامة على وجهي موافقةً على كل ما يقول، حتى لو قال أن الأرض على هيئة مثلث، وأن ابن خَاله يعيش فِي كَوكَب المُشترى، لا أتحدّث أبدًا، قد يظن أحدهم أنه وقار، ولكنه في الحقيقة "خوف".

ولأنني أحب المقاهي الشعبية، وأحب سماع كل من يتكلمون، رأيت أحد الكبار يسب "القهوجي" بأبيه وأمه، ثم قال له بصوت واثق "لو خرجت والدتك من قبرها، لن أُحَاسِب على المشاريب إلّا بالسعر القديم، وأصر على ذلك، وانتصر. ولما رأى رئيس الجمهورية يظهر على شاشة التلفاز ليلقي خطاب لا يفهمه إلا المؤيدين، ويتحدث عن إنجازات لا تُرى بالعين المُجَرّدة، قال الرجل بصوت عالي متعمدًا أن يسمع الجميع رأسه "يا أخي بحب الراجل ده لله في لله، حتى لو مش لاقيين ناكل" نظرت له متعجبًا، فكيف صب غضبه على القهوجي بسبب الغلاء وأعلن حبه للرئيس؟! علمت بعدها أن في المقهى يجلس مخبرًا سري يعلمه الجميع، يستمع إلى كل كلمة تُقال، وعلمت أن الرجل كان خائفًا مثلي، وأكثر.
إنني خائف من الكلام مع أي مواطن شريف في مترو الأنفاق، كي لا أتفوه بما لا يرضي رجال الأمن المنتشرين في كل عربات المترو، كما أنني خائف من الصمت لو دار نقاش بالأحذية بين طرفين أحدهما يؤيد النظام والآخر يرفضه، فيظن المخبرون أنني مع المعارضين المطاردين في كل مكان..
وفي يوم ضربت نفسي في خلاط مترو الأنفاق، ووقفت وسط عصير البني آدمين، أقرأ كتابًا عن مذكرات سجين، كان الكتاب مُبكيًا، ولَمّا رَأَيت أحدهم يحدّق بي مُحَاولًا معرفة ماذا أقرأ؟ ظللت أقرأ وأضحك، محاولًا إيهام المحدق أنني أقرأ بعض القصص الساخرة أو النكات الصغيرة.
إنني خائف من الحديث في هاتفي مع أحد السياسيين، أو الفنانين، أو مشجعي كرة القدم، أو المدافعين عن حقوق الإنسان، لأنهم جميعًا لهم أماكن في السجون، وهناك طرف ثالث يجلس على المكتب وفي يده بعض المسليات ويستمع إلينا جيدًا، وبالمناسبة كُل مَن يَتحدَث مَعي في الهاتف عندما يكتشف أنّه "لَبَّخَ" في الكلام، يُحاول فورًا إثبات أنه لَمْ يَكُن يَقْصد هذا التلبيخ، ويَكاد يَقول للضابط الذي يسمعنا "أنا آسف يا باشا، مكانش قصدي".
لم أكن أتوقع أنني سأخاف يومًا من محصل فواتير الكهرباء، وهذه المرة جاءني محصل الكهرباء طويل القامة عريض الكتفين، ولما ظهرت على وجههي علامات التعجب من ارتفاع فاتورة الكهرباء نحو 10 أضعاف الفاتورة الماضية، قال لي ساخرًا "قول الحمد لله، إنت أحسن من غيرك" اكتفيت بالنظر له بهدوء وقلت له "الحمد لله، ولكني لن أدفع هذه المرة" وكنت خائفًا وأنا أقول هذا، كي لا يلقنني درسًا، نظرًا لأنه سيضطر إلى المجيء مرة أخرى لتحصيل الفاتورة، وهذا لو استطاع أن يرى حلمة أذنه من دون مرآة.

كنت خائفًا في أول يوم ذهبت فيه إلى المدرسة، لا أدري لماذا بنوا أسوارًا عالية بهذا الشكل والحديد يحاوطها كأنها سجن صغير، والطلاب يهربون من فوق السور كأنهم في سجن بالفعل، والأساتذة يمسكون العصي في أيديهم ويتسابقون على لقب "بطل العالم في ضرب الطلاب" كنت أتعلم بالخوف، أكتب الواجب لأنني خائف من العصا لا أنني أريد التعلم. كنت متفوقًا قبل دخولي المدرسة، ولكني فشلت بعد دخولها بسبب الخوف، وكان لدي خوف دائم من "غرفة الفئران" التي كان يهددنا به أستاذنا، واكتشف في النهاية أنها وهم.
دعني أخبرك سرًا لم يعرفه أحد، لقد كنت خائفًا عندما انطلقت دعوات لثورة يناير، وترددت كثيرًا قبل أن أبدل صورتي على "فيسبوك" بصورة تدعو لنزول الشوارع في جمعة الغضب، ولكني فعلتها ويدي ترتعد، وظللت بعدها أنتظر زيارة عساكر أمن الدولة فجرًا، ليخفوني في احدى مقارهم السرية ويعذبوني هناك.

وفي يوم سألني أحد الرفاق، لِمَ لَا تَرحل طالما أن السجن قريب منك إلى هذه الدرجة؟ لم أجبه حينها، والآن أجيب " إنني أريد الرحيل فورًا، ولكني خائف من الرحيل جدًا، خائف من دخول المطارات لأنهم قد يمعنوني من السفر، وأخاف من الرحيل لأنني لو رحلت قد أقرر بنفسي ألا أعود مجددًا، وأخاف أن أعود مجددًا فيسجنوني هنا من جديد أو يمنعوني من دخول الوطن.
أتدري؟ أنا لست خائفًا وأنا أكتب هذه الكلمات..
أنا ميت من الرعب.


أحسن من شرطة أسبانيا !

AFP/GETTY IMAGES
طفحت على سطح وسائل التواصل الاجتماعي وبالوعات الصرف الصحفي، مجموعة من مؤيدي القمع في كل مكان والعنف في أي زمان، ليرددوا كالببغاوات: "انظروا إلى الشرطة الإسبانية وهي تقمع المظاهرات حتى تعلموا أن القمع موجود في كل مكان وأن شرطتنا أحسن من شرطة أسبانيا". في محاولة منهم لتبرير جرائم الشرطة المصرية في حق الشعب. ويحدث هذا الطفح مع كل حدث فيه مظاهرات في أي مكان في العالم، وبعيدًا عن أن هؤلاء لم يذكروا من أسبانيا سوى قمع استفتاء غير مشروع وتجاهلوا مثلًا اقتصاد أسبانيا  الثاني عشر على مستوى العالم والسادس على مستوى أوروبا، والقطاع السياحي الإسباني وهو ثاني أكبر قطاع سياحي في العالم، وقطاع المواصلات في أسبانيا ومنه على سبيل المثال لا الحصر أن إسبانيا تمتلك نحو 1.272 كم من السكك الحديدية عالية السرعة وأن خطتها لعام 2020 أن يكون في إسبانيا 7.000 كيلومتر (4.300 ميل) من القطارات فائقة السرعة تربط بين ما يقرب من جميع مدن المقاطعات ومدريد في أقل من 3 ساعات وبرشلونة في غضون 4 ساعات..  ولأن بعضهم يحاول أن يصنع تشابهًا بين الشرطة المصرية والإسبانية،علينا أن نذكر عدة نقاط:

- أتدري لو حدثت مظاهرة مكونة من 5 أشخاص في مصر اعتراضًا على ارتفاع الأسعار مثلًا، ماذا سيحدث لهم؟ الإجابة أنه لا مجال للتظاهر، ولا مجال للتعبير عن الرأي، لا مجال سوى لدخول السجن في أحسن الأحوال، أو الموت في أسوأها. ولكن ما يحدث في أسبانيا ليس مظاهرة حاشدة معارضة ولو كانت كذلك ما مستها الشرطة، وأعتقد أنه لو طالب متظاهرين بإسقاط النظام نفسه في أسبانيا ما مسهم أحد، إن ما يحدث هو محاولة بفصل إقليم بأكمله عن أسبانيا - كتالونيا - عن طريق إستفتاء (غير مشروع) ولم ينص عليه الدستور أو القانون، ورغم كل القمع الذي نشاهده من الشرطة الإسبانية، إلا إننا لم نسمع عن حالة وفاة واحدة، أو طلقة رصاص حي! ونحن هنا نتحدث عن محاولات انفصال إقليم عن دولة، وليست مظاهرة. هل تذكر ما جرى لشيماء الصباغ عندما خرجت في تظاهرة بها 10 أشخاص تقريبا لإحياء ذكرى ثورة يناير؟! تتذكره جيدًا أليس كذلك؟!

- كل المشاهد والصور التي نُشرت لتفضح قمع الشرطة الإسبانية في إقليم كتالونيا، التقطها عشرات الصحفيين  ونشرتها منصات صحفية مختلفة؛ والواقع أن هذه المنصات الصحفية ما زالت تعمل حتى الآن ولم نسمع أن الشرطة اقتحمت مقر جريدة نشرت صورًا مسيئة للشرطة، أو حجبت موقعًا، أو صادرت عددًا.. ولو أنك دققت جيدًا في صور الاشتباكات، ستجد أن المصورين الصحفيين يتمتعون بحرية فائقة ولا يتعرض لهم رجال الشرطة أبدًا،  فالكاميرا هناك بمثابة حماية قانونية لحاملها، وهنا تعرضنا للسجن المؤبد، وخير دليل على هذا ما يتعرض له الصحفي محمود أبو زيد شوكان الذي مكث  في السجن أكثر من 4 سنين على ذمة الحبس الاحتياطي بسبب عمله الصحفي، ولعلك تدرك مدى صعوبة العمل الصحفي حينما تقرأ أخبارًا تفيد بمنع صحفي من تغطية حدث ما، أو القبض على صحفي من منزله، كما أنه يقبع في السجون المصرية 51 صحفيًا بسبب أداء عملهم. بحسب تقدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان.

- أعلن "جيرارد بيكيه" لاعب نادي برشلونة في تصريحات عديدة أنه من مؤيدي انفصال كتالونيا عن إسبانيا، وأن كاتلونيا يجب أن تصبح أمة مستقلة، ومؤخرًا رفع نادي برشلونة راية العصيان وأعلن إضرابه بداية من يوم الثلاثاء، بسبب ما وصفه بانتهاكات غير قانونية ضد السكان المحليين لإقليم كاتالونيا، في مساعيهم للانفصال عن السيادة الإسبانية، وأعلن النادي أن اللاعبين لن يذهبوا لخوض التدريبات، ويسري الأمر كذلك على فرق الشباب بمختلف فئاتها العمرية ولن يقتصر على الفريق الأول.. لم يتم القبض على "جيرارد بيكيه" ولم تحاك مؤامرة داخل المنتخب الإسباني لإبعاده عن المنتخب بسبب أفكاره ومعتقداته، كما لم تقام مجزرة ضد جماهير نادي برشلونة مثلًا..
لكن الذي حدث في أم الدنيا (مصر) أن "حمادة السيد" كابتن فريق أسوان لكرة القدم ولاعب نادي المقاولون العرب سابقًا، تعرض للاختفاء القسري  بسبب طول لحيته وبسبب أن مظهره يوحي بأنه إسلامي الفكر، وما زال معتقلًا حتى كتابة هذه الكلمات.. ومازالت السلطات المصرية تطارد لاعب كرة القدم المحبوب محمد أبو تريكة بسبب أفكاره، وبزعم دعمه للإرهاب كما أنه لم يتمكن من حضور عزاء والده، ويحدث كل هذا التنكيل رغم أنه لم يعلن يومًا انتمائه لفصيل سياسي أو دعمه لأي جماعة. ولا يمكننا نسيان ما دبرته جهات مجهولة معروفة لألتراس أهلاوي في بورسعيد كي يسقط منهم 74 شهيدًا، وأولتراس زملكاوي في مجزرة  ستاد الدفاع الجوي التي راح ضحيتها 20 شهيدًا، وأعداد كبيرة مطاردة من شباب الأولتراس وآخرون محكوم عليهم بالسجن المشدد، وكل هذا بسبب أفكارهم.

- ما يلفت النظر أكثر أن الشرطة الإسبانية كانت تقمع المظاهرات لأنه بالفعل هناك تهديد لأمن أسبانيا القومي، ولأن الاستفتاء غير دستوري، ورغم أنه لا يمكن تبرير القمع بأي حال من الأحوال، إلا أن الحكومة الأسبانية تستطيع تبرير ما تفعله بأنها تحافظ على الأمن القومي، أما هنا يا صديقي فنحن نُقمع لأننا نريد الحفاظ على الأمن القومي، ولأننا لا نريد التفريط في الأراضي المصرية؛ ولنا في تيران وصنافير آية.