سجناء يرتدون الميري 2

gettyimages

بالأحمر

الشاويش راضي


هو “راضي” فقط عندما تعطيه مما أعطاك أهلك، علبة سجائر، ورقة ب 5 جنيهات، وأكاد أجزم أن الـ 5 جنيهات كانت تفعل ما لا يتخيله عقل مع هذا الراضي، لكن مفعولها يدوم يومًا واحدًا وربما ساعات، ولكنه على أي حال كان موفرًا للغاية وليس جشعًا، 5 جنيهات أو علبة سجائر ترضيه جدًا، يناديك بعدها بأفخم الألقاب، وكفيلة بأن تجعل السجين يتضامن مع هذا السجان الذي تسحره 5 جنيهات فقط، أو علبة سجائر رديئة. ولكن هذا الشعور بالتضامن قد يتحول إلى غضب لا نهاية له، عندما تعلم أن راضي أبلغ رجال المباحث بأن في حوزتك راديو، أو هاتف محمول، أو  أنك تجلس مع فلان الفلاني أوقاتًا طويلة. كانت سياسته مع السجناء وإدارة السجن تشبه سياسة النظام الحالي، فالنظام يحاول إرضاء كل المتضادين، روسيا وأمريكا، السعودية وإيران، وهكذا، وراضي كان يحاول إرضاء السجناء من أجل السجائر، والإدارة من أجل المكافآت الشهرية.


الشاويش أيمن


كان فمه كبيرا جدا، يشبه فم الخليج، عندما يضحك تظهر أسنانه الضخمة التي تشعرك بأنه من مصاصي الدماء، شاربه ضخم ربما يصل إلى لسانه الذي يشبه لسان القرود، طويل طول باب الزنزانة.
الشاويش أيمن سخّر زنزانة صغيرة بها 5 مساجين ليخزن بها أشيائه التي هي أشيائنا، كان يبلطج علينا عندما دخلنا سجن أبو زعبل، وكان له قانون صريح “على كل زنزانة أن تعطه مما لديها حتى يفتح لنا الزنازين، كل طلب له ثمن، هكذاوبكل صراحة “.
كانت لدينا زجاجات “حاجة ساقعة”، اشتريناها من الكنتين لأنه كان فارغًا إلا من سواها، وكان لا بد أن نصرف تذاكر الشراء لأنها ستنتهي آخر الشهر.
دخلت “الدورة” وفتحت زجاجة الحاجة الساقعة وأفرغت فيها بعض الماء، ماء مني وليس من الصنبور؛ وكنا حينها في أوج الشتاء فكان الماء كثيرًا.
أعجبت الفكرة أحد السجناء، فدخل الدورة بعدي بزجاجة أخرى وفعل مثلي، وأغلقناهما بشكل جيد، وظللنا نضحك ونرقص وننتظر اللحظة التي يأتي فيها الشاويش أيمن؛ لحظة الانتقام؛ ولما وصل تبرعت أنا لأول مرة لأعطه زجاجتي، أعطيته واحدة في المرة الأولى وقلت:
– أحلى زجاجة حاجة ساقعة لأحلى شاويش أيمن في الدنيا.
نظر لي متعجبًا فكان لا يحبني لشعوره بأنني أتعالى عليه ولا أعطه من زيارتي أي شئ، فقلت:
– يا عم أيمن متزعلش مني بقى، خلاص احنا حبايب، طيب والله لا تاخد كمان واحدة، هات يا ابني كمان زجاجة حاجة ساقعة لأحلى شاويش في منطقة سجون أبو زعبل.
فشخ فمه وابتسم ابتسامة مصاصي الدماء، ونظر لي نظرة رضا.
ولا أدري هل اكتشف الشاويش أيمن أن الحاجة الساقعة كانت ممزوجة بالبول أم لا. ولكني كنت أتمنى ألا يكتشف ويشرب منها كما يشرب الظمآن في الصحراء.


الأمين مبروك
الشاويش مبروك، شاويش برتبة أمين شرطة، لذا له وضعه وسط الشاويشية، كما أنه وبلا فخر كان يدرس في كلية الحقوق بجامعة القاهرة قسم التعليم المفتوح، حتى يحصل على شهادة جامعية ويصير ضابطًا، ورغم أنه مبروك لا يستطيع القراءة جيدًا، إلا أنه كان واثقًا من نجاحه في الكلية. ولما سألته عن سبب إصراره على التعليم في هذا العمر؟ فاجأني بأنه عندما يتخرج من الكلية، سيحق له أن يعلق نجمة، ويصير ضابطًا. كان يقولها وهو يتأمل نفسه يرتدي بذته وعليها نجمة الضباط.
في يوم  نظم زملائي الصحفيين وقفة على سلم نقابة الصحفيين، تطالب بالإفراج عن المصور الصحفي محمود أبو زيد شوكان، وعني، فنشرت جريدة الشروق خبر على الغلاف ووضعت صورتي وصورة شوكان.
كان مبروك يحب الشهرة جدًا، ويحب أن يخدم كل من يذكر اسمه في أي جرنال، فما بالك لو كانت صورته هي التي نشرت! كان عم محمود زميلي في الزنزانة يعلم ذلك جيدًا، فوجدته يخبر الشاويش أيمن بأن العالم في الخارج غاضب لأجلي وبأن الجرائد مقلوبة، كان يزودها جدًا، فأنا لم يذكر اسمي في الجرائد إلا في أخبار القضايا ومقالات الروائية أهداف سويف في جريدة الشروق.  لم يصدق مبروك أن صورتي في الجرنال إلا بعد أن رآها بنفسه، نظر للصورة ودقق فيها قليلًا، ثم نظر إليّ وقال:
= صحيح والنبي يا عم محمود، ده هو بجد!.
ومن وقتها بدأ يعاملني معاملة خاصة، حتى أنه كان يفتح لي باب الزنزانة ويقول لي “ما تخرج بره الزنزانة تشم هوا شوية” ، كما أنه لم يمانع من زيارتي لرفيق صبري في زنزانته، أو أن يأتي ياسين ليجلس معي في. أذكر أنني يومًا قلت له أريد أن يجلس معي ياسين قليلًا، فلم يتردد وذهب إلى زنزانة ياسين، وأيقظه من نومه:
– اصحى يا ياسين واغسل وشك بسرعة وتعالى عشان الأستاذ أحمد عايزك.
ياسين كان سيقتلني لأنه استيقظ من النوم مبكرًا ولكن عجبته الفكرة جدًا، وفي يوم تبدل حال مبروك، فعلمنا أن بريق الشهرة قد انطفى، وجاء عم محمود من جديد ليريه خبرًا على الصفحة الرئيسية في جريدة ديلي نيوز ايجبت  المحلية التي تصدر باللغة الانجليزية، وقال له أنها جريدة عالمية، ولم يصدق مبروك ما يراه وقال لي وهو يضحك وينبهر أكثر:
= ده بالانجليزي يا أستاذ أحمد، بالانجليزي صح؟
لم أرد ونظرت له متكبرًا فقال عم محمود:
– طبعًا بالانجليزي، وفي جرايد بلغات تانية كتير، بقول لك عالمي.
ومن وقتها لم يرفض مبروك لي أي طلب، وأعتقد أنه كان يريد توقيعي على بدلته الميري لينال شرف أن أحد الصحفيين الذين تنشر صورهم في الجرائد قد وقع له على البدلة، ولما حصلت على براءة كان مبروك قد أخذ مني وعد بأنني لن أنسى جدعنته ووقوفه بجانبي قد أخذ مني وعدا بأن أكتب قصته، لا أعلم ماذا كان يريد أن أكتب في قصته بالتحديد، ولكن  ها أنا أكتب، فهل سيقرأ؟!
***
ملحوظة: أسماء الشاويشية ليست حقيقية، وتم تبديلها بأسماء من الخيال حرصًا على سلامة من يتعاملون مع السجناء بشكل إنساني.

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة