بكل شجاعة، دعني أُخبرك بأنني خائف إلى ما لا نهاية، وأحيانًا أرتعد
من كل شيء في هذا الوطن، صَغيرًا كان أَم كَبيرًا، ولا أدري لِمَ أُرَاقِب كُلّ
مَن حَولِي لا إراديًا، وأشك في كل من يمرّ بِجَانبي، وأُحدّق في كلّ سيّارة تقف
بجوار الأرصفة وأظُن أنها جميعًا تطاردني أو تتربّص بي، لشيء لا أعلمه، أو قُل
أنني أعلمه جيدًا كما أعلم اسمي ولكني أُمَثِّل دور الجاهل، لأنني خائف. إنني خائف
من الاعتراف بأنني هَذا الكَاتِب الذي ينشُر مَا يَكتبه في مواقع محجوبة، وربّما
لو قابلني أحدهم وَسَأَلَنِي: "أنت فلان الذي يكتب؟". أقول له:
"لست هُو، أَنَا أُعمل في السباكة، أتريد إصلاح أي صنبور في هذا الوطن؟ أم أن
كل شيء على ما يرام ؟". قد يبدو الشعور بالخوف من كونك تكتب أو تعمل بالصحافة
مؤلمًا، لكنه أحيانًا يكون مُضحكًا مُبكيًا. على كل حال، الوطن يحتاج إلى
السبّاكِين والنجّارِين والفواعلية أَكْثَرَ مِنَ الكُتّاب والصّحَافيين.. هكذا
قال لي أحدهم وهو يقرأ جريدة قَومية كاذبة ويجلس على إحدى المقاهي الشعبية في
منطقة مَعْدُومَة.
أنا مستمع جيد، ولا أمّل سماع القصص والروايات في أي مكان وزمان،
وأحيانًا أضع الطُّعم لأحدهم كي يتكّلم ويُخرج ما بداخله، فإما أن يلعن اليوم الذي
وُلد فيه، أو يَلْعَن المسئول الفلاني ويسب الحكومة ورئيسها وربما يسب البلد
بأكملها، وقد يلعن المعترضين على قرارات الحكومة أحيانًا، المهم أن اللعنة لا تخلو
من الحديث، والأهم أنني لا أتحدث أبدًا، وأكتفي بتحريك رَأسْي ورسم ابتسامة على
وجهي موافقةً على كل ما يقول، حتى لو قال أن الأرض على هيئة مثلث، وأن ابن خَاله
يعيش فِي كَوكَب المُشترى، لا أتحدّث أبدًا، قد يظن أحدهم أنه وقار، ولكنه في
الحقيقة "خوف".
ولأنني أحب المقاهي الشعبية، وأحب سماع كل من يتكلمون، رأيت أحد
الكبار يسب "القهوجي" بأبيه وأمه، ثم قال له بصوت واثق "لو خرجت
والدتك من قبرها، لن أُحَاسِب على المشاريب إلّا بالسعر القديم، وأصر على ذلك،
وانتصر. ولما رأى رئيس الجمهورية يظهر على شاشة التلفاز ليلقي خطاب لا يفهمه إلا
المؤيدين، ويتحدث عن إنجازات لا تُرى بالعين المُجَرّدة، قال الرجل بصوت عالي
متعمدًا أن يسمع الجميع رأسه "يا أخي بحب الراجل ده لله في لله، حتى لو مش
لاقيين ناكل" نظرت له متعجبًا، فكيف صب غضبه على القهوجي بسبب الغلاء وأعلن
حبه للرئيس؟! علمت بعدها أن في المقهى يجلس مخبرًا سري يعلمه الجميع، يستمع إلى كل
كلمة تُقال، وعلمت أن الرجل كان خائفًا مثلي، وأكثر.
إنني خائف من الكلام مع أي مواطن شريف في مترو الأنفاق، كي لا أتفوه
بما لا يرضي رجال الأمن المنتشرين في كل عربات المترو، كما أنني خائف من الصمت لو
دار نقاش بالأحذية بين طرفين أحدهما يؤيد النظام والآخر يرفضه، فيظن المخبرون أنني
مع المعارضين المطاردين في كل مكان..
وفي يوم ضربت نفسي في خلاط مترو الأنفاق، ووقفت وسط عصير البني
آدمين، أقرأ كتابًا عن مذكرات سجين، كان الكتاب مُبكيًا، ولَمّا رَأَيت أحدهم يحدّق
بي مُحَاولًا معرفة ماذا أقرأ؟ ظللت أقرأ وأضحك، محاولًا إيهام المحدق أنني أقرأ
بعض القصص الساخرة أو النكات الصغيرة.
إنني خائف من الحديث في هاتفي مع أحد السياسيين، أو الفنانين، أو
مشجعي كرة القدم، أو المدافعين عن حقوق الإنسان، لأنهم جميعًا لهم أماكن في
السجون، وهناك طرف ثالث يجلس على المكتب وفي يده بعض المسليات ويستمع إلينا جيدًا،
وبالمناسبة كُل مَن يَتحدَث مَعي في الهاتف عندما يكتشف أنّه "لَبَّخَ"
في الكلام، يُحاول فورًا إثبات أنه لَمْ يَكُن يَقْصد هذا التلبيخ، ويَكاد يَقول
للضابط الذي يسمعنا "أنا آسف يا باشا، مكانش قصدي".
لم أكن أتوقع أنني سأخاف يومًا من محصل فواتير الكهرباء، وهذه المرة
جاءني محصل الكهرباء طويل القامة عريض الكتفين، ولما ظهرت على وجههي علامات التعجب
من ارتفاع فاتورة الكهرباء نحو 10 أضعاف الفاتورة الماضية، قال لي ساخرًا
"قول الحمد لله، إنت أحسن من غيرك" اكتفيت بالنظر له بهدوء وقلت له
"الحمد لله، ولكني لن أدفع هذه المرة" وكنت خائفًا وأنا أقول هذا، كي لا
يلقنني درسًا، نظرًا لأنه سيضطر إلى المجيء مرة أخرى لتحصيل الفاتورة، وهذا لو
استطاع أن يرى حلمة أذنه من دون مرآة.
كنت خائفًا في أول يوم ذهبت فيه إلى المدرسة، لا أدري لماذا بنوا
أسوارًا عالية بهذا الشكل والحديد يحاوطها كأنها سجن صغير، والطلاب يهربون من فوق
السور كأنهم في سجن بالفعل، والأساتذة يمسكون العصي في أيديهم ويتسابقون على لقب
"بطل العالم في ضرب الطلاب" كنت أتعلم بالخوف، أكتب الواجب لأنني خائف
من العصا لا أنني أريد التعلم. كنت متفوقًا قبل دخولي المدرسة، ولكني فشلت بعد
دخولها بسبب الخوف، وكان لدي خوف دائم من "غرفة الفئران" التي كان
يهددنا به أستاذنا، واكتشف في النهاية أنها وهم.
دعني أخبرك سرًا لم يعرفه أحد، لقد كنت خائفًا عندما انطلقت دعوات
لثورة يناير، وترددت كثيرًا قبل أن أبدل صورتي على "فيسبوك" بصورة تدعو
لنزول الشوارع في جمعة الغضب، ولكني فعلتها ويدي ترتعد، وظللت بعدها أنتظر زيارة
عساكر أمن الدولة فجرًا، ليخفوني في احدى مقارهم السرية ويعذبوني هناك.
وفي يوم سألني أحد الرفاق، لِمَ لَا تَرحل طالما أن السجن قريب منك
إلى هذه الدرجة؟ لم أجبه حينها، والآن أجيب " إنني أريد الرحيل فورًا، ولكني
خائف من الرحيل جدًا، خائف من دخول المطارات لأنهم قد يمعنوني من السفر، وأخاف من
الرحيل لأنني لو رحلت قد أقرر بنفسي ألا أعود مجددًا، وأخاف أن أعود مجددًا
فيسجنوني هنا من جديد أو يمنعوني من دخول الوطن.
أتدري؟ أنا لست خائفًا وأنا أكتب هذه الكلمات..
أنا ميت من الرعب.