الصبُّ في مصلحة محدود




اسمه مواطن، ولقبه معدوم، ومُسجّل في أوراق الحكومة باسم "محدود الدخل". ولأننا لا يمكننا مخالفة الحكومة سنطلق عليه محدود، إلى أن يصير له صوت مسموع ومخيف في وقت لا يعلمه إلا الله، وحينها نناديه باسمه الحقيقي "مواطن". لم يتوقف "محدود" عن التفكير في القضية، والقضية بالنسبة له ليست سوى ألا يتوقف أولاده عن التعليم، إنهم يتعلمون الجهل في المدارس، ولكنه يعتقد أنهم يتعلمون. القضية بالنسبة له ألّا يكُف أولاده عن التهام الطعام، قد يأكلون الكلاب والقطط وحشائش الأرض على أنها خراف وأرانب وخضروات، ولكنه يعتقد أنه يطعم أولاده أفضل الأطعمة على الإطلاق.

القضية بالنسبة له هو أن يرتدي أولاده ملابس الشتاء الجديدة، حتى لو كان يخدعهم ويقول أنها جديدة، ولكنها ليست كذلك، فهو مُشترٍ معروف في سوق الملابس المستعملة. يعمل محدود في وظيفته منذ أكثر من 29 سنة، حياته لا تتبدل، ولو تبدلت لغتنا الأم، لو رأيته ذاهبًا إلى عمله حسبته يرتدي ملابس العمل ذاتها منذ أن بدأ العمل.

كل شيء قد تغير في هذا الوطن، المنتخب الوطني لم يعد بنفس لاعبيه، الثورة على الفساد تغيرت وحل مكانها ثورة على من ثاروا وعلى من يقولون الحق، الصحافة لم تعد مهنة الصحفيين ولكنها صارت وظيفة لرجال الأمن، الصحفيون والسياسيون الذين كانوا يظهرون في وسائل الإعلام لأنهم شاركوا في الثورة أصبحوا يدخلون السجن ويظهرون في وسائل الإعلام وهم يرتدون البدلة البيضاء أو الكحلي في قفص حديد، الأسعار لم تعد ترتفع 2% كل 3 أعوام ولكنها ترتفع 200% كل ثلاثة أيام، إنها ترتفع إلى حد السماء، و"محدود" سعره ينخفض.

كل شيء تبدل في هذا الوطن إلا ثلاثة أشياء، فساد من يحكمونا، ونفاق من يتحدثوا في أمرنا، ومرتب هذا الرجل المسكين. انتشرت الشحاذة في طول البلاد وعرضها، في شركاتها ومصانعها ومطابعها ودور نشرها، في شوارعها وحاراتها وأزقتها، في مدارسها وجامعاتها ومنابرها، في خطاباتها الرسمية والسرية، في خطاباتها الدينية والسياسية والفنية، في وسائل المواصلات ووسائل الإعلام، في الأتوبيسات العامة والصحافة الخاصة، ولكن "محدود" ما زال يقاوم ولا يريد أن يكتب عند الحكومة شحاذًا.

يقولون إن كل قرارات السيد الرئيس تصب في مصلحة محدود ورفاقه، حتى إنك لو فتحت مصلحته ستجد بها قرارات رئاسية عديدة "قرار برفع أسعار الأدوية، قرار برفع أسعار الطعام، قرار بتعويم الجنيه، قرار بإغراق المواطن، قرار بإقرار الضرائب، قرار بخفض الدعم، قرار بزيادة أسعار الإنترنت والكهرباء والاتصالات" وغيرها من القرارات التي صبت في مصلحته مباشرة.. ولا أدري كيف اكتسب "محدود" هذه الطمأنينة بعد كل هذه القرارات، ولا أدري كيف يعيش؟!

راتبه 2000 جنيه في الشهر، ويدفع منهم ألفًا لإيجار المنزل، وعليه أن يكمل كل حياته هو وأولاده بما تبقى.. لكن على كل حال، كل ما يحدث يصُب في مصلحته، ثم إن السيد الرئيس ذاته قال يومًا: "لو عايزين استقلال حقيقي متاكلوش ومتناموش، يا خسارة كل أملنا شوية الرز وشوية السكر؟".. هكذا قال بعد أن اختفى السكر فترة طويلة من حياة الفقراء، ولما ظهر السكر اختفت ملامح الحياة ذاتها. هو دائمًا لا مشكلة لديه في أن يجوع الشعب أو يعطش، المهم أن نكون "كده"، كيف لمن يخفي المواطنين في مقار الأمن الوطني أن يهمه اختفاء الطعام؟!

لا أدري كيف ستكون الحياة في 2019 بالنسبة لـ "محدود"؟ ولا أدري إن كانت مصلحته ستتحمل كل القرارات الجديدة أم لا؟! فخطة الحكومة لهذا العام ليست أن نتحول إلى دولة نفطية، ولا صناعية، ولا معمارية، ولا في خطتها أن يكون هناك دولة، ولا شبه دولة، الخطة الوحيدة هي أن يتحول الوطن إلى فندق لا خدمات فيه، والمواطن إلى سائح يدفع مبالغ باهظة وضرائب لا حصر لها، سيرفعون الدعم عن كل شيء في هذا العام، هذا بعد أن يرفعون المواطن ذاته، الأسعار لن تتوقف عن الارتفاع، سيخترعون كل ساعة ضريبة جديدة. ضريبة الكلام أو السكوت، ضريبة ركوب السيارة وضريبة السير على الأقدام، ضريبة الطعام وضريبة الجوع.

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة