لسماع المقال اضغط هنا
(1)
المواطنون لا يحصلون على أي حق من حقوقهم إلا بعد دفع الرشاوى، والمستشفيات بمثابة مقابر جماعية للمرضى، والمدارس تعّلم أولادنا الجهل، والغاز يصدّر لإسرائيل، بينما الغلابة يتقاتلون من أجل الحصول على أسطوانة غاز أو بعض الخبز، يتصارعون على كل شيء مهما كان بسيطًا، كثرت الصراعات؛ فتحولت بلادنا إلى غابة كبيرة.
المرتبات لا تكفي المواصلات، والداخلية تقمع المظاهرات، وأمن الدولة يتفنن في التعذيب.
وكان مقتل خالد سعيد وسيد بلال بعد تعذيبهما بمثابة تغيير جذري في حياة ثائر لم يكن قد خرج في أي تظاهرات منذ أن خرج في التظاهرات المنددة بقتل محمد الدرة وحصار النظام المصري وإسرائيل لأهالينا في قطاع غزة.
حينها قرر هذا الثائر أن يتفاعل مع أي دعوة تظاهر ضد النظام، وشارك في ثورة 25 يناير، وعندها خيرّه والده بين الميدان والبيت، ساعتها اختار الميدان حتى سقط حسني مبارك، وعندما تصدّر المشير طنطاوي المشهد، رفض حكم العسكر وشارك في كل الانتفاضات والملاحم الثورية ضد الحكم العسكري، وكان عضوًا في حملة "عسكر كاذبون".
وسقط العديد من رفاقه في المعارك العديدة، ثم خرج ضد مرسي بعد ضياع حق الشهداء، وطالب بانتخابات رئاسية مبكرة.. وعندما عاد الحكم العسكري من جديد لينتقم من كل من له علاقة بثورة 25 يناير أو تجرأ على أن يهتف "يسقط حكم العسكر"، زُجّ به في المعتقلات مع من ثار ضدهم لأنه تخلّوا عن الثورة من أجل الوصول إلى الحكم، في أثناء فترة اعتقاله فقد ثلاثة من أقرب رفاقه، ولم يحضر جنائزهم، أحدهم مات غرقًا في مياه النيل، والثانِ مات من الإهمال في سجن وادي النطرون، والآخر قتلته الشرطة برصاصة حية في الرأس. وبهذا، صار الرفاق إما في القبور أو في المعتقلات، وإما هاجروا بعد اليأس، أو قرروا الجلوس في منازلهم لممارسة شعائر الاكتئاب.
وفي صباح يوم 29 نوفمبر 2014، استيقظ الثائر من نومه واستمع إلى الراديو الذي يخبأه في مرحاض الزنزانة حتى لا يعثر عليه مخبرو السجن. وسمع خبر براءة نظام مبارك بأكمله، فالشعب هو من قتل نفسه، وهو من سرق، وهو من ارتشى، وصدّر الغاز لإسرائيل، الشعب عذّب وشرّد وأفقر وجهّل نفسه بنفسه، ولا يوجد رصاص ولا خرطوش ولا قناصة ولا حرامية ولا بلطجية.
بعد إعلان براءة النظام، فتح الشاويش الزنزانة وهتف بصوته الغليظ: "هفتح الزنزانة نص ساعة وبعدها تدخلوا من غير كلام"، فأغلق الراديو ودفن نفسه في البطانية "الميري" التي تشبه "الخيش" في ملمسها الخشن، وحمد الله على وجود قضاء شامخ حبسه وحبس كل هؤلاء الحالمين، ومن شدة فرحته بقضائنا الشامخ بكى حتى كادت الزنزانة أن تغرق من كثرة دموعه؛ ثم نام.
نوفمبر 2014
سجن أبو زعبل
(2)
بالأمس اقتحم الزنزانة أشخاص ضخام الجسم، صغار العقل. مُلثّمون يرتدون السواد. أصواتهم غليظة وفي أيديهم أسلحة وعصي فض اشتباكات. أمرونا أن نجلس على الأرض؛ وأن نضع وجوهنا مقابل الجدران، وأيدينا فوق رؤوسنا كما الأسرى في الحروب. ضربونا دون سبب. ضربونا وكأننا قتلنا أولادهم أو خربنا ديارهم، أو اغتصبنا نسائهم. اعترضنا؛ فازداد الضرب عنفًا. كانوا ينعتوننا بأبناء العاهرة.
جميعهم ملثمون، ربما لأنهم خائفون ولأنهم يعلمون أن المظلومين لا ينسون وجوه جلاديهم مهما مضى من الأيام والسنين. وربما ملثمون ليبثوا الرّعب في نفوسنا.
نادوا على أسماء بعينها، بينها الرفيق "أحمد مصطفى"، وقيدوا أياديهم وأرجلهم من الخلف، وأخذوهم إلى مكان غير معلوم.
نادى أحدهم على اسمي، وكان يعلم أنني من رسمت صورة الشهيد "جابر جيكا" على جدران الزنزانة. فسألني؛ من هذا؟ فقلت أنه أحد من قتلتوهم. فضربني بعصاه وهو ضاحكًا وكأنما كان ينتظر هذا الرد، شيء ما كان يدعوني للسخرية من عيونهم التي تشع كراهية وتدل على أنهم مرضى نفسيين فضحكت بدل أن أبكي.
لم يتركوا أخضرًا ولا يابس، فقد سرقوا كل شيء، الملابس الشتوية، سخانات المياه التي نطهو بها طعامنا، الكراسي التي يجلس عليها كبار السن، السجائر، الساعات، أغطية الشتاء. أما الأشياء التي لن يستفيدوا منها فدمروها. قطّعوا كل أوراقي وكتبي. وقبض أحدهم على الراديو الخاص بي وقال: بتسمع راديو يا ابن العاهرة؟ وتعمّد أن يحطمه أمام عيني، وداسه ببيادته التي تشبه وجهه، ظنًا منه أني سأنكسر كما انكسر الراديو. ولكني ضحكت، فازداد غيظًا على غيظه وضربني ورفاقي الذين قُدر لهم أن يكونوا بجواري، فنالوا ما نالوه.
في الحقيقة لم أحزن على شيء قدر ما حزنت على فراق "الرفيق أحمد مصطفى" الذي اصطحبوه إلى مكان غير معلوم، وقدر حزني على يومياتي التي مزقوها، وقدر حزني على تحطيم الراديو. بالصدفة، جاء أخي لزيارتي نفس اليوم. وفي طريقي للزيارة رأيت أحمد مصطفى مقيدًا ومعه 26 آخرون منهم كبار في العمر. نظرت إلى رفيقي من دون أن أتحدث، فابتسم كأنما يطمئنني. ولم تفارقني صورته وأنا ذاهب إلى الزيارة، فلم أتمالك دموعي التي ذرفتها دون تعمد على فراق رفيقي، وليس على الضرب والسرقة والتحطيم الذي خلفه الاحتلال الصهيوني في زنازين السجن. وبعد انتهاء الزيارة رأيت أحمد ورفاقه في سيارة الترحيلات، فناداني وقال: "لا تحزن. واكتب ما حدث، ولا تملّ من الكتابة".. ولهذا أكتب.
أمرني ألا أدعهم يرون دموعي حتى لا يظنون أنني منكسر. أمرني بذلك رغم الدموع الواضحة فى عينيه. ثم رحلّوه. هكذا هي السجون؛ جدرانها بُنيت على الفراق والدموع والضحك المجروح.
صعدت إلى زنزانتي حيث أربعة جدران وبُرش كالجليد، دون أي شيء آخر يمكن استخدامه في المعيشة، جلسنا ورفاقي نغني كي لا ننكسر "واطلق كلابك في الشوارع واقفل زنازينك علينا".
ديسمبر 2014
سجن أبو زعبل
اقرأ أيضًا