عيدهم فى السجن


مصر العربية



بين أربعة جدران يجلسون، ينتظرون ويشتمنون رؤية شئ مختلف، أو سماع أصوات تذكرهم بأيامٍ لم تفارق مخيلتهم، ولكن لا جديد سوى أنه لا جديد، نفس الوجوه والأصوات، نفس القضبان..


نفس الرفيق الذى يقول دائمًا: "تخيل يا صديقى أننا يوماً كنا طلقاء، نمضى فى الشوارع بلا مواعيد، نتنفس الهواء بحرية، نرى الشمس بلا حواجز، نجلس أمام البحر، نرى أحبابنا، ننام على فراش يكفى لخمسة مساجين".. هكذا تكون الحكايات هناك, خلف القضبان.


* نحن نحلم بالحصول على وظيفة جيدة، ورحلة ممتعة، ونحتمى من حرارة الشمس، وهم تتلخص أمانيهم فى الحصول على تريض ساعة واحدة فى ممر كئيب لا يراه الشمس، تمنع إدارة السجن هذا التريض لدواع أمنية، أو لسوء الأحوال الجوية، أو لأن بعض الحقوقيين نظموا مظاهرة فى القطب الشمالى للتضامن مع المعتقلين.


نحن يزعجنا صوت التلفاز العالى أثناء النوم، وهم يزعجهم صوت عساكر الأمن اللذين جاءوا لتفتيش الزنزانة أو لسرقة محتوايتها بعد الفجر، ففى أكثر الأحيان يتحول التفتيش إلى (تقفيش) وانتهاكات وإهانات، ودائما هناك خسائر فى صفوف المعتقلين، أقلّها دخول زنزانة التأديب.


* نحن نمل القراءة ونجعل من الكتب زينة فى مكتبة، ونستغنى عن الجرائد لوجود الإنترنت، ونفكر فى تغيير الفراش واستبداله بآخر يجعلنا نشعر بالراحة، تفكر فى الابتعاد عن البيت قليلاً وعدم رؤية أبيك وأمك لفترة ما، وهم تتلخص أمانيهم فى قراءة كتاب، جرنال، سماع الراديو، ولا مانع من النوم على برش الزنزانة، ولكن الحصول على شبرين للنوم حلم يصعب تحقيقه، يتمنون أن تتخطى الزيارة 20 دقيقة حتى يتمكنوا من رؤوية ذويهم.
أما فى الأعياد:
* نحب الأجازات والأعياد.. نتمنى استمرارها لأنها فرصة لراحة البال، فى السجون يبغض المعتقلين كل الأجازت، ولا سيما الأعياد، ويتمنون أن تمضى الأيام سريعا، كى تأتى الأيام العادية، لأن الداخلية تحتفل بالمعتقلين على طريقتها، فتغلق الزنازين من يوم الوقفة إلى آخر أيام العيد، وتمنع التريض فى الممر الكئيب، فيصير الممر هذا حلماً كأنه الجنة، دعك من التصريحات الإعلامية الكاذبة ولوائح السجون التى بالطبع لا تطبقها وزارة الداخلية، فهذا هو الحال.
* أنت دائمًا تسمع أن مصلحة السجون تعلن عن زيارات استثنائية للمعتقلين بمناسبة العيد، لكن دعنى أخبرك بأن الزيارة الاستثنائية لا تتخطى عشرة دقائق، وربما يطول انتظار ذوي المعتقل من الصباح إلى المساء، بدعوى أن الأعداد كبيرة، والدخول إلى قاعة الزيارة فى وقت مبكر حسب ما ستدفعه من رشاوي، لذا تجد زيارات تجار المخدارت والسلاح أطول بكثير من زيارات السياسين، كما أنهم لا ينتظرون وقتاً طويلاً. فهناك فرق كبير بينك وبينهم.. أنت سياسى، وهم قتلة وتجار مخدرات!


*جميلة هى أصوات المساجد عندما تكبر" الله أكبر الله أكبر والله الحمد" تجعل السعادة تتسرب إلى نفوسنا، أما صلاة العيد فى الساحات، وإعطاء الهدايا للأطفال. ومشاهدة مسرحية المشاغبين وشاهد مشافش حاجة. هى أشياء ممتعة برغم أننا نفعلها كل عيد، لكن فكرة أن يتخلى ذويك عن صلاة العيد من أجل أن ينتظروا رؤيتك أمام أبواب السجون منذ الصباح ليخففون عنك بعض همومك، كفيلة بإماتتك حزنًا، فيجب أن تدفن حزنك داخلك وتبتسم.


يصلى المعتقلون صلاة العيد بين أربعة جدران، يبتسمون وفى داخلهم جرح لا نهاية له، ينظرون إلى أبواب الزنازين وهى تُفتح فى صباح العيد دقيقةً واحدة من أجل إدخال التعيين والجراية (الطعام والخبز) وربما يتحايل أحد المساجين على الحرس حتى يعلق ملابسه المغسولة خارج الزنزانة لأن الزنزانة مزدحمة، فيرضى الحرس أو لا يرضى.


ترى الحرس يتحايلون عليك كأنك سائح ويطلبون سجائر العيد أو بعض الطعام أو المشاريب التى خزنتها للضرورة (كل سنة وانت طيب يا أستاذ أحمد مفيش حاجة ولا إيه؟) وفى أصواتهم تلاحظ التحذير (مش هنفتح الزنزانة بعد العيد لو مجبتش حاجة).. تشعر بالغضب عندما ترى من يتحكمون فيك لا يفكرون إلا فى بطونهم، ولكن لا تتهور، فإن دخلت التأديب ستحرم من الزيارة شهرًا كاملًا.


عندما تنقضى صلاة العيد ينام الجميع كما الموتى، إنه الهروب من الواقع.
***
قال لى أحد رفاقي فى الزنزانة: تعرف إن العيال اللى بتغنى ورا صفاء أبو السعود فى أغنية العيد فرحة مش مصدقين إن العيد فرحة؟!


- إزاى يا فيلسوف؟!


- عشان هى بتقول العيد فرحة وهما بيقولوا (يا سلام).. يا سلام هنا زى يا سلام لما حد يكذب وانت ترد ومش مصدق (يا سلام)، وأجمل فرحة. يا سلااااااااااام.


لكن دائما هناك أشياء تلهيك عن الحزن، ما زلت أذكر صوت الرفيق "ياسين صبرى" من الزنزانة المجاورة لزنزانتى وهو يغنى (اطلق كلابك فى الشوارع. واقفل زنازينك علينا) فيتحول العنبر إلى ساحة غناء، ويصيح الحرس ليأمرونا بالسكوت، ولكن عندما يبدأ الغناء فمن يستطيع أن يجعلنا نصمت؟!

أشعار تقال، ومسرحيات صوتية، وتقليد لأصوات الحيوانات بشكل مضحك، ومبكى.

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة