| ||
وصل الجنرال العسكري إلى الحكم عبر انقلاب عسكري دموي، وصار الحاكم المطلق للبلاد، لم تكن هناك سلطة فى البلاد قادرة على محاسبته. وأصبحت كل مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية والإعلامية تأتمر بأمره.
قتل الآلاف من معارضيه ممن أطلقت عليهم وسائل الإعلام "المخرّبين" فبررت وسائل الإعلام جرائمه واختارت الانحياز للديكتاتور العسكري بدلًا من انتقاده وفضح جرائمه، وصارت وسائل الإعلام تحكى للناس كذبًا عن إنجازات وهمية لم يشعر بها المواطن.
توجهت أسلحة الجيش أثناء حكمه نحو أبناء الشعب من المعارضين بدلًا من توجهها نحو العدو الحقيقى.
لجأ الجنرال إلى جريمة الإخفاء القسري، فاختطف المعارضين وأولادهم أيضًا وإحتجزهم فى أماكن غير معلومة؛ فالجنرال لم يفرق فى الخطف بين طفل أو شيخ أو امرأة.
أما التعذيب فكان احدى الوسائل القذرة التى استخدمها ضد المعارضين، وأقارب المعارضين، وجيران المعارضين. واللي يتشدد للمعارضين.
لم يكن هناك مانع من اعتقال الابن بدلاً من أبيه؛ أو العكس؛ المهم أن تصل الرسالة إلى كل أبناء الشعب بأنه من لم يرضى بحكم الرصاص سوف تدهسه الدبابات وأنه لا صوت يعلو فوق صوت السلاح.
لم يلتفت إلى أصوات المنظمات الحقوقية التى أدانت كل أفعاله وجرائمه، واعتقد أن السلاح فقط هو القادر على حكم شعبه.
أما الحالة الاقتصادية للبلاد فقد شهدت تأخرًا ملحوظًا وتضاعفت الديون بشكل غير طبيعى، وسعى العسكر إلى تجميع أكبر من الثروات لصالح جنرالاتهم.
تتحدث السطور السابقة عن الجنرال الأرجنتيني "خورخي فيديلا" الذي حكم الأرجنتين بعد أن قام الجيش الأرجنتينى عام 1976، بانقلاب عسكري على النظام البرلماني وعزل "ماريا أستيل" رئيسة الجمهورية الأرجنتينية من الحكم، ومع أن الدولة وقتها كانت تصف معارضيها بالمخرّبين إلا إن "إرهاب الدولة" وتخريبها أثناء حكم المجلس العسكري الأرجنيتنى طال الجميع، خاصة خلال فترة الجنرال العسكري الدموي "خورخيه فيديلا" (1976-1981).بدعوى أن الوضع إستثنائيًا.
في عهده تم تصفية مئات الطلاب والمعارضين، كما اعتقل الآلاف دون محاكمات حقيقية؛ فخُطفوا من بيوتهم أو من جامعاتهم أو من عملهم دون محضر شرطة، ودون أمر قضائي، ودون محاكمة.
ولأن الرصاص يحكم، والدماء تسيل بلا حساب، والأرواح تُزهق في الشوارع، والأطفال يخطفون، والنساء يدفعن ثمن نضالهن ضد بطش السلطة العسكرية بالزج بهن في المعتقلات؛ حاول النظام العسكري أن يشغل الناس بكرة القدم حتى لا يلتفتوا إلى جرائمه.
فقد تحدث المعارضون حينها عن فساد الاتحاد العالمي لكرة القدم "فيفا" واتهموه بأنه حصل على مبالغ مادية حتى تستضيف الأرجنتين كأس العالم سنة 1978.
تجاهلت وسائل الإعلام كل الجرائم التى ارتكبها النظام العسكري؛ وحاولت أن تلفت الأنظار نحو كرة القدم، فازدادت أعداد المعارضين للنظام العسكري في صفوف المشجعين خاصة بعد موقف اللاعب الهولندي "يوهان كرويف" الذي كان بين أكبر هؤلاء المعارضين للنظام الحاكم في الأرجنتين والذى رفض السفر إلى الأرجنيتن بسبب معارضته للجنرال العسكرى.. وتحولت مبارايات كرة القدم إلى تظاهرات ضد النظام العسكري، واستغلت أمهات المختفين قسريًا الحشد الجماهيري للمباريات في تعريف الناس بقضايا أبنائهن.
كانت الأحكام العُرفيّة السارية في الأرجنتين تمنع الاجتماع في الساحات والشوارع لأكثر من ثلاثة أشخاص. لذلك اتفقت مجموعة من أمهات المختفيين قسريًا على التظاهر أمام مقر الرئاسة الأرجنتينية في ميدان مايو بطريقة مبتكرة فمشت الأمهات اثنتين اثنتين فى شكل دائري لمدة ساعة وشكلن ما يعرف بأمهات ساحة مايو.
هاجمت وسائل الإعلام الموالية للنظام العسكري الأمهات ووصفتهن بالمجنونات والحاصلات على أموال من الخارج لزعزعة الاستقرار؛ واختطف الأمن 12 شخصًا مرتبطين بحركة الأمهات.
تحولت المظاهرات الدائرية إلى طقس أسبوعي عصر كل خميس؛ وزادت أعداد الأمهات أسبوعًا بعد آخر نتيجة تناقل الخبر بين الناس؛ واكتفت السلطات العسكرية في الأشهر القليلة الأولى بالتأكيد على تطبيق القانون على الجميع. (قانون الرصاص).
بعد أن اشتدت المعارضة ووصلت قضية الاخفاء القسري للمجتمع الدولي؛ ذكر "يوحنا بولس الثاني" بابا الفاتيكان الأرجنتين في عظته الأسبوعية، مُشيرًا إلى قضية المُختفيين قسريًا؛ فنظم "خورخيه فيديلا" مؤتمرًا صحافيًا لأن كلام بابا الفاتيكان كان محرجًا للمجلس العسكري؛ اتسم خطابه بالرياء وارتدى ثوب المتدين، وياللعجب صرح أن نظامه يعتبر أن حقوق الإنسان قيمة انسانية لا يمكن الاستغناء عنها، وأن كرامة المواطن الأرجنتيني مصانة، وأن الحريات انتشرت فى ظل حكمه العسكري؛ وأن مرجعيته الكاثوليكية أمرته بهذا.
ثم وصف الانقلاب العسكري بأنه "إعادة للتنظيم الوطني" وأنه لم يقم بهذا الانقلاب إلا لإنقاذ البلاد والعباد من المخربين، والدفاع عن حقوق الإنسان ضد انتهاكات المخربين والإرهابيين الذين يستهدفون حرية وكرامة الإنسان ويحاولون تدمير القيم الأخلاقية والدينية للمجتمع الأرجنتيني، وأن ضميره الوطني والديني استدعاه لهذا الفعل، مع أنه لا يحب أبدًا أن يكون رئيسًا للبلاد لأنها مسئولية عظيمة سيحاسبه الرب عليها.
وعندما سأله أحد الصحافيين عن المختفيين قسريًا والذين وصل عددهم إلى 30 ألف وفى روايات أخرى 50 ألف، قال "ليس بإمكاننا القيام بأي إجراءات طالما أنهم مختفون" على أساس أن من خطفوهم كائنات فضائية؛ أو على طريقة (أنا عارف إن فى مظلومين كتير فى السجون.. بس مش هفرج عنهم).
رغم أن فيديلا احتمى من شعبه بآلة القمع التى ظن أنها ستنجيه من الهلاك إلا أنه شعبه لم يرحمه وظلت الثورة مشتعلة ضده خلال الـ5 سنوات التى حكم فيها الأرجنيتن بالرصاص.
وانتهى به الحال بأن حكم عليه بالسجن مدى الحياة مرتين بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية وبالسجن 50 عاما بسبب اختطاف أطفال معارضين.. ومع أن تلك الجرائم التى ارتكبها ونظامه العسكري كانت من سنة 1976 حتى 1981 إلا أنه سجن عام 2008 وانتهى به الحال بالموت فى سجنه فى عام2013؛ ولم تُقدّم التحية العسكرية إلى "خورخي فيديلا" خلال تشييع جنازته لأن رتبته قد سحبت منه بعدما تبرأ الجيش من جرائمه؛ وجاء في الشريط الإخباري لشبكة اي24 الاخبارية التلفزيونية "المجرم القاتل قد توفى".
توفى المجرم ولكن جرائمه ستظل حية فى ذاكرة الشعب الأرجنيتنى إلى الأبد. فالتاريخ لا ينسى.
يقول ألدوس هكسلي أن "أهم درس يمكن أن نستفيده من التاريخ هو أن البشر لا يستفيدون كثيراً من دروس التاريخ".
مواضيع متعلقة: