تعامل بعضهم مع الثورة كأنها فتاة عذراء ساذجة أخذ منها كل ما يمكن أن يأخذه، ثم تركها وادّعى أنها سيئة السمعة".
كانت هذه الكلمات الأولى التي أقرأها للدكتور محمد يسري سلامة "رحمه الله" وكانت إلى حد ما كلمات مفاجئة، فكاتبها سلفيّ المنهج؛ في وقتٍ كان أغلب السلفيين لا يؤمنون بالثورة؛ وفي وقتٍ كان يطلّ علينا كائنٌ يدعى عبد المنعم الشحات، ليحرّم ما أحله الله، فحرّم التظاهرات والخروج على الحاكم حتى لو كان الحاكم ظالمًا وحتى لو اجتمعت الأمة على ذلك.
لم أكن أعرف الدكتور محمد يسري سلامة، من قبل ولم نلتقِ وجهًا لوجه، ولكن كلماته كانت تعبر عني وعن الكثيرين ممن يؤمنون بالثورة. كان كارهًا للظلم، فرأيناه يهاجم المجلس العسكري وينتقده بشكلٍ علني في الوقت الذي قرر فيه أغلب أبناء التيار الإسلامي السكوت أو التبرير لجرائم العسكر وفي هذا كتب: "يخوفوننا بالقتل وكلنا سيموت في نهاية الأمر، يخوفوننا بالسجن ونحن في سجن كبير بالفعل، يخوفوننا بالفقر ونحن فقراء أصلًا، إنهم كاذبون وعاجزون أيضًا".
أزعم أن وجود الدكتور محمد يسري سلامة كان مهمًا بشكلٍ كبير لمواجهة التطرف، وأذكر قول أحد الشباب الذي كاد أن يلحد بسبب ما رآه من تيارت تطلق على نفسها إسلامية "كنت في طريقي إلى الإلحاد بسبب ما يفعله مدّعي التدين، الحمد لله أنني قرأت كلمات محمد يسري سلامة" يُذكر أن الشخص الذي كاد أن يلحد قد انتقل إلى رحمة ربه.
لم يخشَ الهجوم الممنهج عليه عندما كتب: عفوًا، فأنا لا أستطيع الفصل بين الثورة ومحمد البرادعي، حاولت ولكن لم أستطع. في الوقت الذي كان التيار الإسلامي يظن أن البرادعي عدو الله، والفلول يعتقدون أنه دمر العراق.
فالرجل كان أول متحدث باسم حزب النور السلفي، ولكنه سريعًا ما ترك حزب النور مبكرًا، بعدما رآه من انحراف ومعاداة للثورة، لينضم لصفوف الشباب الثوري. ففي الوقت الذي أعلن فيه بعض السلفيين حماية المنشآت في وقت ثورة الشباب وكأنّ شباب الثورة بلطجية يسعون إلى تدمير الدولة وجدنا الدكتور محمد يسري سلامة يكتب لهم: "أنا خجلان ممن قام بحراسة المناطق العسكرية وأقسام الشرطة التي لا تحتاج إلى حراسة أصلًا، لماذا يسمح بعض السلفيين باستغلالهم أسوأ استغلال؟"
ولأن الله أنار بصيرته واستطاع أن يرى ما قد يحصل في المستقبل نراه يحذر التيار الإسلامي في 2012 مما حدث مستقبلًا:
"يجب أن يدرك الإخوان والسلفيون أن النظام يعمل على عزلهم التام عن باقي القوى الوطنية والإسلامية وسعيد بذلك، حتى يستطيع التخلص منهم فيما بعد. أرجو أن يدرك السلفيون بعد رفض تطهير أمن الدولة والشرطة في قضية الضباط الملتحين أن النظام لا يحبهم ولا يطيقهم وسيغدر بهم عند أول منعطف."
ومما هو ليس بغريب، أن الجبهة السلفية لم تغفر له رحيله عن حزب النور وانضمامه لحزب الدستور، كما لم تغفر له محاولة نصحهم بشكل مهذب وتحذيرهم مما يخطط له المجلس العسكري، فرأينا بعد موته الدكتور خالد سعيد، المتحدث باسم الجبهة السلفية، ينعيه بشكل غير لائق قائلًا: أدعو الله أن يغفر له على اختياره لصحبه. (يقصد بصحبة السوء الشباب الذين هتفوا ضد الحكم العسكري في وقت كان البعض يهتف باسم المشير طنطاوي).
وفي ظل الصراع الذي اختلقه المجلس العسكري بين دعاة الدولة المدنية أو الدينية سخر الدكتور محمد يسري من الجميع قائلًا:"مصر ليست دولة علمانية ولا دولة دينية، مصر دولة اللا قانون، دولة لا يهتم فيها أحد بالفقراء والمرضى، ولا يقتص فيها أحد للشهداء، أين الدولة؟".
لم يكن مجرد سلفي أحب الدكتور محمد البرادعي، ولم يكن مجرد ثائر في الشوارع والميادين، ولم يكن مجرد سياسي مخلص في زمن النخبة الفاسدة، ولم يكن مجرد شخص متدين. ولكنه كان قارئًا لما يمكن أن يحدث في المستقبل، فرأيناه يرفض فكرة الانتخابات في وقت نحتاج فيه إلى الثورة، وأثبتت الأيام أنه كان محقًا، وفي هذا كتب: "مطلوب طرطور للرئاسة، فعلى المرشح تقديم ما يثبت أنه أكبر طرطور موجود في السوق وشكرًا. كل ما يجري هذه الأيام يهدف إلى شيئين أساسيين: تمرير الرئيس الذي يريدون، وتمرير الحكم ببراءة مبارك بأقل خسائر ممكنة بأن ينسى الناس الثورة. الإخوان لم يتعلموا من 54 وشعارهم انبطح أو اعمل نفسك ميت. الثورة لن ينجحها الرئيس القادم، واعتبر أن التعلق الزائد بالانتخابات هروبًا وعدم تحمل للمسئولية، النظام قائم، توكل على الله ثم اعتمد على نفسك. هل تصدقون حقأ أن المجلس العسكري سيسلم السلطة بالكامل إلى رئيس (مدني) ثم يعود إلى ثكناته وكأن شيئًا لم يكن ويترك الرئيس الجديد يفعل ما يشاء؟؟ انتخابات العسكر (برلمان ورئاسة) مفيش تزوير، وكله بالديموقراطية ومفيش صلاحيات، وكله بالحب".
كما رأى أن معركة ستشتعل قريبًا بين الثوار والإخوان تنتهي بمحاكمة الإخوان واتهامهم بقتل الثوار، وأن كل هذا سيحدث بقيادة المجلس العسكري فقال: ترقبوا اشتباكًا وشيكًا في التحرير بين الإخوان وغيرهم.. خطة المجلس ماشية تمام، وبعدين يحاكموا الإخوان ويقولوا هم قتلة الثوار. حتى لو الإخوان كسبوا، العسكر هيعندوا معاهم جامد ويتعبوهم ويحرجوهم وهيلاقوا تأييد، ود.مرسي هيبقى زي عصام شرف. هناك من يقول سأصوت لرئيس يحاول نزع صلاحيات العسكر والتصادم معه لو تطلب الأمر وسنقف معه في ذلك، المجلس لن يعطي أحدًا سكينا ليذبحه به أصلًا.
كما نصح الجميع بالوحدة قبل فوات الأوان: "أريد أن لا يخسر بعضنا بعضًا بسبب الانتخابات، لأننا سنصبح في خندق واحد قريبًا جدًا." واستشعر أن السيسي يومًا سيخلع رداء العسكر ليرتدي رداء المدنية في مقاله "إسلاميون في أزمة" فكتب: إن عدم القدرة على الحسم قد تدفع النظام إلى الأخذ بزمام الأمور والدفع بمرشح عسكري في زي مدني. سندفع ثمن الاضطراب والتخبط في إدارة المرحلة الانتقالية قريبًا جدًا. كما كتب: سنصبح دولة عسكرية برئيس مدني أو شبه مدني.. أسلوب من أساليب خداع النفس.
ورأى أن الحل في الثورة، الحل في الشارع:
اللي مستني الانتخابات هو حر، لكن انا شايف نقلب الترابيزة وربنا معانا.
كان كارهًا للإحباط محرضًا على قول الحق:
حالة إحباط عامة لماذا.. هل ظننا أن الطريق سيكون سهلًا؟ انفض عنك غبار اليأس أيها الثائر، فإن صاحب الحق منصور، وهذا وعد الله ولا يخلف الله وعده.
عدوًا للظالم:
صبور على كل ما يَكرَه المرء كله سوى الظلم، إني إن ظُلِمتُ سأغضبُ. أرفض مساواة جميع الأطراف في المسؤولية عما يجري للثورة الكل أخطأ هذا صحيح، لكن لا تتساوى الأخطاء.
علم نهاية المشهد المأساوي أننا سنتجمع في السجون:
"أقول للثوار المختلفين فكريًا وأيدولوجيًا: هنتحبس كلنا قريبا وهتبقى فرصة نتعرف اكتر على بعض.عما قريب سيجتمع الشرفاء من الإخوان والإسلاميين مع الشرفاء من جبهة الإنقاذ وغيرها في السجون والمعتقلات، وحينها سيتسنى لهم مناقشة خلافاتهم جيدًا".
وهاجم مبادرة تبرع بجنيه التي أطلقها محمد حسان:
سأتبرع للمجلس العسكري كي يستطيع شراء رصاص وخرطوش وغاز ليضربني به مرة أخرى.
وحدثنا عن أن العسكر يسلبون حقوق الفقراء ثم يردونها لهم على أنها إنجازات:
يخنقون معيشة الناس أكثر وأكثر، حتى إذا عادت الحياة إلى طبيعتها (المزرية) ظن الناس أنهم حققوا إنجازًا.
وأن إعلامنا كذّاب:
كلما أردت أن أعرف الحقيقة نظرت إلى ما يقوله إعلامنا وعكسته، وكلما أردت أن أعرف الاتجاه الصحيح مشيت عكس الاتجاه الذي يدفعونني إليه.
علم أن المعركة القادمة معركة وعي:
ستنجح الثورة عندما يبدأ الشباب في التثقف وقراءة الكتب، وليس مجرد الدخول على مواقع التواصل الاجتماعي ظنًا منهم أن هذه هي الثقافة.
ولعلنا نرى الآن ما يحدث من مزايدات ومشاحنات بين العوام لمجرد الاختلاف في الرأي.
في الوقت الذي قرر الإخوان فيه أن يقفوا في وجه الثورة، وفي وقت الشماتة وتبرير كشوف العذرية و"ايه اللي وداها هناك" و"يا واد يا مؤمن" كان يدرك أن من يرضى بالظلم لغيره سيُظلم، ومن يبرر السحل سيُسحل، وقال في هذا:
"أحذر الإخوان من محاباة المجلس العسكري وفلول النظام على حساب الشعب، فالعواقب ستكون وخيمة. من برر السحل سيسحل ولو بعد حين، وعلى أيدي من برر لهم".
للأسف لم يسمع له الإخوان، ولم يسمع له الشباب، فالإخوان قد قُتلوا في الميادين فيما بعد، والشامتون في الإخوان أيضًا سكنوا زنازين العسكر وقضوا بها أعوام، وفروا هاربين من الاعتقال والإخفاء القسري.
وفي نهاية حياته كتب:
صحيح أنني لم أحصل على أي مكاسب من الثورة بل خسرت أشياء، ولكني لست بنادم، اخترت الثورة وكان يمكنني أن أكون عضوًا في كل لجنة وبرلمان، وفخور بذلك. لن أندم أبدًا على الثورة وعلى مشاركتي فيها وهي أجمل وأطهر وأنبل حدث في حياتي، وليس ذنبنا أننا قمنا بها وسط انتهازيين وجهال معدومي الوعي.
حتى كلماته الأخيرة تشعرك أنه استشعر اقتراب الموت منه:
إن كان حظي في الحياة قليلها.. فالصبر يا مولاي فيه رضاك.
توفى محمد يسري سلامة في 24 مارس 2013 ولسان حالنا الآن أننا في أشد الحاجة إلى عقل الدكتور محمد يسري سلامة ورحمته وثباته ووسطيته واحترامه للأفكار والمعتقدات المختلفة، نحن في حاجة إلى من يجمع شمل أبناء الوطن لا إلى من يفرقهم. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
اقرأ أيضًا