حتى لا يأكلنا الذئب

كارتون الفنان أنديل (مدى مصر)

لسماع المقال اضغط هنا

"كنا نحن معشر الحمير، نتحدث بلغة خاصة بنا، مثلما يتحدث البشر، كنا نتكلم ونغني، ولم نكن ننهق مثلما عليه حالنا الآن، النهيق بدأ فيما بعد، فكما تعلمون أن جميع احتياجاتنا ورغباتنا وعواطفنا نفصح عنها الآن بالنهيق.

لكن كيف تغيرت لغتنا إلى نهيق؟
تغيرت بسبب الخوف، تلجمت ألسنتنا، وذهبت عقولنا، فصرنا ننهق.
في زمان ما، كان يلهو حمار عجوز في الغابة وحيدًا، كان يغني بلغة الحمير، وبعد فترة من الغناء واللهو، اشتم رائحة ذئب قادم من بعيد، رفع الحمار رأسه وتنفس حتى امتلأت رئتيه، وقال لنفسه: "لا يوجد رائحة ذئب" واستمر في لهوه وتجاهله لرائحة الذئب، ازدادت رائحة الذئب أكثر، وهذا يعني أنه اقترب، ولكن الحمار طمأن نفسه وقال: "قد لا يكون ذئب".
رائحته صارت تملأ المكان ولكنه قال: "إن شاء الله لن يكون ذئب".
سمع صوت الذئب فباتت الأمور واضحة، ولكن الحمار أقنع نفسه بأنه ليس صوت ذئب.
مع اقتراب الذئب أكثر أخذ قلب الحمار يخفق وعيناه ترتجفان، ثم باتت الأمور مكشوفة أكثر عندما رأى الذئب بعينيه، فقال: "أتمنى ألا يكون ما أراه ذئب، لقد أصاب الوهن عيني، لذلك آراه ذئب".
تقلصت المسافة بين الحمار والذئب حتى صارت 50 مترًا، فطمأن نفسه قائلًا: "قد يكون فيل بهيئة ذئب".
حتى لو كان الذئب قادمًا فماذا سيفعل ليّ طالما أنني لم أحاول أذيته.
شعر أنه يريد الابتعاد قليلًا عن المكان ففعل، ابتعد وهو ينظر وراءه فرأى الذئب مسرعًا نحوه فاتحًا فاه، فقال الحمار: "كم أنا أحمق، كيف أرى القط ذئبًا؟".
أسرع الحمار في الهروب حتى صارت قدماه ترتطمان في بطنه ومع هذا قال: "ليس ذئبًا".
نظر الحمار خلفه عندما شعر بأنف الذئب المبلل يلامس ظهره، فأغمض الحمار عينيه كي لا يراه، وقال: "أعرف أنك لست ذئبًا، لا تلعب في مؤخرتي بيدك فأنا لا أحب المزاح باليد".
غرز الذئب الجائع أسنانه في ظهر الحمار، ونهش قطعة كبيرة، ومن حلاوة الروح ارتبط لسان الحمار ونسي لغته قائلًا: " إنه ذئب آه، آه هو، هاق هاق هاق".
تابع الذئب نهشه، فلم يستطع الحمار سوى أن يصرخ: "هاق، هاق".
منذ ذلك اليوم نسينا لغة الحمير وصرنا لا نقول سوى: هاق، هاق"

هذه كلمات الرائع عزيز نيسين في قصته "آه منا نحن معشر الحمير" بتصرف.

***
أذكر أنني يومًا نشرت على صفحتي فيديو بالصوت والصورة منقول عن جريدة الوطن، لأمين شرطة يصفع سيدة على وجهها لأنها أصرّت على إيقاف المترو من أجل إبعاد أحد المتحرشين عن سيارة السيدات.

رغم أن الصفعة كانت واضحة يراها الأعمى، وجدت تعليقات مريبة حتى ظننت أن هؤلاء ليسوا ببشر، كثيرون هم من قالوا إن المترو في بلد غير مصر، وتجاهلوا زيّ أمين الشرطة ورجال الأمن المحتشدين حول السيدة، وتجاهلوا لافتة "اتجاه شبرا".. كثيرون أيضًا من حكموا على المرأة وقالوا إنها ربما تخطف الأطفال، أو تبيع الحشيش، أو تسرق الهواتف، أو حاولت تفجير المترو.. هناك من فرح بضربها وتساءل: "لماذا تصرخ بهذا الشكل؟ تستاهل الضرب؟"، وهناك من اكتفى بسبّي ولعني وتخويني واتهامي بالعمالة والتخابر.
أما سيادة اللواء أبو بكر عبد الكريم، المتحدث باسم وزارة الداخلية اتصل بالإعلامي وائل الإبراشي، ونفى أن أمين الشرطة ضربها على وجهها، فسيادة اللواء يثق أن هناك ملايين سيصدقونه ويكذبون ما رأوه بأعينهم من أجل عيون السيسي.
وضعت الحكومة على الأرض سجادًا بطول 4 كيلو مترات، من أجل أن يمشي عليها موكب السيسي، ولكن هناك من لم يجدوا تبريرًا لهذا الفعل، فقرروا أن يدّعوا أنه ليس إلا دهانًا لونه أحمر وأن الإخوان هم من يروجون لأنه سجاد.. وعندما أعلنت الرئاسة فتح تحقيق في أمر السجادة الحمراء، جاء من قال إنه طلاء أحمر، وأن هذا السجاد لا يكلف الدولة مليمًا واحدًا لأنه قديم.
ارتفع سعر الدولار ووصل إلى 9 جنيهات وأكثر، فنشر بعض مؤيدي للنظام الحالي تفسيرًا لارتفاع سعر الدولار واصفين ارتفاع الدولار بأنه ضربة معلم من السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، لأنه عندما يرتفع سعر الدولار سيزيد الاستثمار في مصر لأن الجنيه رخيص جدًا، مما سيؤدي إلى زيادة الطلب على الإنتاج المصري "شبه المعدوم" ونستمر على هذا الوضع لمدة سنة، ثم يرتفع الجنيه وينخفض سعر الدولار، وربما يصبح الجنيه أعلى من سعر الدولار.
أما عن انتهاكات أمناء الشرطة وبلطجتهم على خلق الله، وفرض الإتاوات، وقتلهم الأبرياء لأن الدولة أعطتهم سلاحًا ميري بأموال الشعب، فلربما يرى البعض أن بعض أمناء الشرطة إخوان، لهم دور محدد في تشويه سمعة الشرطة الحسنة، وربما لا يرى هؤلاء أن هناك انتهاكات أصلًا.
صاحبنا المؤيد "تأييدًا مطلقًا" يرى أن الحياة جميلة، وأن الدولة مستقرة، وأن التعليم زي الفل، وأن الصحة في العالي، وأن الشرطة في خدمة الشعب، وأن من تم إخفاؤهم قسريًا انضموا لداعش، وأن مصر ليس بها معتقلين.
صاحبنا وصل إلى درجة خطيرة من درجات التبرير، حتى تظن أنك لو وضعت مسمارًا في رأسه لفرقع رأسه كالبالونة من فرض خواء عقله، فأعتقد أن كل من يعارض النظام الحالي ليس إلا إخوان، الاشتراكيون الثوريون إخوان، و6 إبريل، والألتراس، والعلمانيون والليبراليون الذين انضموا مؤخرًا بشكل صريح لصفوف المعارضة، والناصريون الذين اكتشفوا أن السيسي ليس ناصر، والأطباء، والمحامون، والصحافيون المعارضون.
أوصله عقله الخاو، وبصره الذي لا يرى إلا ما يريد النظام أن يريه إياه، وسمعه الذي لا يسمع به إلا ما يقوله عاشقو تراب السيسي، أن بعض الأقباط إخوان، فأصدر نهيقة في إحدى زرائب الإعلام قائلًا: "منى مينا، وجورج إسحاق إخوان".. ما معناه أن مني وجورج المسيحيان يطالبان بالخلافة الإسلامية، ويؤيدان المرشد العام أميرًا للمؤمنين، ويضعان نغمة "ثورة دي ولا انقلاب" على هاتفيهما.
صاحبنا المؤيد يرى الذئب يأكل الناس، ويحاول أن يقنع نفسه أن الذئب هو من أٌكل.، بل يحاول إقناع نفسه ومن حوله، بأن الذئب ليس إلا فيل، أو قط صغير.. يرى الذئب ينهش لحمه فيظن أنه يعبث بمؤخرته.
اعذروني إن شبهت قصة الحمار التي ذكرها "عزيز نيسين" بالوضع الحالي، لأنها للأسف تشبه واقعنا كثيرًا، فكثيرون هم من قرروا التنازل عن عقولهم، وأبصارهم، وأسماعهم، لأنهم فقط يوالون فئة بعينها، وصاروا يبررون كل الأخطاء والجرائم التي ترتكبها تلك الفئة لمجرد الانتماء والولاء لها.
عليك عزيزي المبرر والمؤيد أن تعلم أن هذه المقالة ليست توبيخًا أو اتهامًا لك بالحمورية، لكنها دعوة لأن نشعر جميعًا بخطورة التخلي عن عقولنا وألسنتنا وأبصارنا وأسماعنا واستبدالهم بالتنهيق، عليك أن تدرك خطورة ما تفعله حتى لا يأكلنا الذئب.

اقرأ أيضًا

خطاب السيسي الموزون (4)



شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة