قوانين لم تُكتب

AP




     كانت الأصوات عالية جدًا، تصرخ، وتترجى وتتوسل إلى أحدهم أن يتوقف عن استخدام العصا الكهربائية؛ وأصوات أخرى مضادة  تسب وتلعن وتأمر "اقلع ياض، قول أنا خول، قول أنا مرا" والأمر الأخير يدل على مدى جهل الأغلبية المتحكمة في أقسام الشرطة، ما معنى أن يكون هناك رجل بعقل ناقة يعذّب أحدهم ثم يقول لهم "قل أنا امرأة"؟ إذا كان يقصد إذلاله في أثناء التعذيب فما السُبّة في كون المرء امرأة؟!

كان  يحدث هذا بشكل علني، في قسم شرطة ثان مدينة نصر، من دون خشية؛ لا من محاميين ولا من صحافيين، بل إنهم قد يعرضوا لما يتعرض له هؤلاء الطلبة، التعذيب في قسم الشرطة قانون لم يُكتب على أوراق، قانون كتبه رئيس المباحث؛ والضرب شئ بديهي، طبيعي، ضروري، مثله مثل الهواء والماء والطعام.

"في بلد لا يحكم فيه القانون يمضي فيه الناس إلى السجن بمحض الصدفة؛ لا يوجد مستقبل في بلد يتمدد فيه الفقر كما يتمدد ثعبان في الرمل؛ لا يوجد مستقبل"- صلاح عبد الصبور

***

    كانت الكاميرا التي ضبطوني متلبسًا بها، تزعج كل ضباط القسم، فما أن يراها ضابط إلا ويصب غضبه علىّ وعلى الكاميرا.
حينها تسائلت:
- ماذا لو ضبطوني بمخدرات؟!
وأجاب عقلي الباطن:
- سيشربوه ويتركوك يا غبي!
  صعدت إلى الطابق الثاني، في مكان يسمى (الثلاجة) ما زلت أذكر آثار الدماء القديمة على الجدران؛  وقتها شعرت برعشة مماثلة لرعشة حيوان عيناه مفتوحتان على آخرهما بعدما رأى زميله يذبح وحان دوره، مشهد يُذكّرك بأفلام الرعب، ولكنها للأسف لم تكن أفلام.

وقفت وأربعة طلاب من جامعة الأزهر قبض عليهم أثناء ذهابهم للامتحانات ننظر للدماء، أحدهم كان يرتعد وكأن كتلة ثلج سقطت من السماء بداخله والتصقت بجسده ولن تذوب الآن؛ وفي أسفل بنطاله خرج ماء بشكل لا إرادي، نظر لي فأشحت عنه وجهي سريعًا كي لا يشعر بحرج.

ازداد عددنا حتى وصل إلى 62 طالبًا و14 طالبة وصحفي سئ الحظ،  بعد قليل جاء زميل صحفي يعمل في اليوم السابع اسمه"أحمد س"، كي يلتقط لنا صورًا بالتأكيد نشرتها الجريدة بعنوان يشجع قوات الأمن على مزيد من القمع "عاجل: القبض على طلاب  ينتمون إلى جماعة الإخوان الإرهابية وبحوزتهم أسلحة ومولوتوف"، الجريدة هي وكيل النيابة والقاضي، تؤكد دائمًا أن كل من يقبض عليه إرهابي، نظرت إلى "س" وهو يصورنا؛ وضحكت ( أليس هذا زميلى؟! ربما لم يراني).
.
 بعدها رأيت الطالبة "آيات حمادة" وكان يسبها أحد الضباط لأنها تشجعت وطلبت من ضابط بأن يسمح لزميلتها بدخول دورة المياه؛ فقال الضابط:
= لسنا فى مدرسة يا روح أمك!
وهذا قانون آخر غير مكتوب في أقسام الشرطة، لسنا في مدرسة كي ندخل دورة المياه يا روح أمنا.

      ع. أ البالغ من العمر 32 عامًا  أصر على إكمال دراسته، كان طالبًا بالفرقة الرابعة بكلية تجارة بجامعة الأزهر، وعندما اعتقل بشكل عشوائي  كان معه مبلغ 500 جنيه، سرقه منه أحد أمناء الشرطة، ولكنه أصر على أن يسأل أكثر من مرة عن مصير الـ 500 جنيه، لأنه لا يملك سواها ويشتري بها أشياء مهمة،كما كان يقول، ولم يعلم صاحبنا أنه سيعود إلى منزله بعد 5 أعوام. كان لديه إصرار غريب على المطالبة بحقه، كلما طلب الـ 500 جنيه، يصعقه أحدهم  بعصا كهربائية ويسأله: -هل ترانا لصوصًا يا ابن العاهرة؟!
لم يتوقف "ع" عن الحديث:- أمي هي أمك.
سباب لم أسمعه من قبل، ولكن الرجل الذي يصعقه استوعب معنى الجملة بعد وقت، فعاد لتأديبه، وسأله:- انت بتشتمني؟

    أمرنا  أحد الضباط الذي كان يشعر بالملل على حد قوله بأن نقف صفين؛ ففعلنا، مرّ بيننا ينظر إلى وجوهنا بغيظ وعندما كان يشير إلى أحد منا قائلا:
= الواد ده ابن متناكة.
كانت الجنود  تنهال عليه ضربًا.  ثم يأتي الدور على طالب تلو الآخر!
   بعدها وثقوا أيدينا بالكلابشات الحديد كل اثنين معًا، وأجلسونا على الأرض حتى آخر الليل كانت الأعداد تتزايد حتى العاشرة مساءً. مع أن التظاهرات كانت في الصباح! مايعني أنهم استمروا في القبض على طلاب الجامعة كمالة عدد؛ أخبرني أحد من جاءوا ليلًا أنه كان في انتظار صديقته بالقرب من الجامعة وفجأة وجد مجموعة تحمله إلى سيارة البوكس، وبعدما وضعوه في البوكس قال ضابط للعساكر:
= هاتوا كمان اتنين ويلا بينا.
- ماذا فعلت؟!.. هكذا قلت.
= لا شئ، كل ما فكرت فيه أن هذا أول لقاء بيني وبينها، وستظنني هربت منها!

    أمرنا أحد الضباط بالوقوف في حيز ضيق، وأن نضع وجوهنا فى وجه الحائط، وأن نلتصق ببعضنا البعض، حتى صرنا كالجسد الواحد، يضم رؤس كثيرة وأشياء أخرى؛ وقفنا فى حيز مستحيل أن يتسع لهذا العدد، وأمسك الضابط عصاه يضرب بها من هم فى آخر الصفوف، فصاروا يضغطون بقوة على من يقف في وجه الحائط. ومن في وجه الحائط يختنق من التدافع لكنه ينجو من الضرب؛  ومن في الخلف يُضرب بالعصا وينجو من الاختناق؛ أما أنا فضلت الاختناق حينها؛ نظرًا لأنه أمر معتاد بالنسبة لمصور صحفي يركد وسط الغاز المسيل للدموع ليلتقط صورة أو فيديو، وتتصارع عليه الأيادي المتظاهرة أحيانًا خوفًا من التصوير!

   في أثناء الحفلة؛ انضم إلينا الطالب "مراد عبدالحميد " البالغ من العمر 17 عامًا حينها، وكان جسده ضخم، مما أغرى الضابط بأن يكمل سهرته  مع مراد، فأمرنا ألا نتحرك، وعندما كان يحاول أحد الطلاب الإعتدال، كان الضابط يضرب مراد بالعصا والقدم ويقول ساخرًا:
- قلت لكم لا تتحركوا.
ورغم أن مراد صاح فينا:- متتحركوش يا ولاد الوسخة أنا اللي بتضرب. لم يتوقف الضابط لأن الكوميديا أعجبته.

 وهكذا قضينا باقي الليلة نشاهد مُراد يُضرب، وجسده يهتز وينظر لنا غاضبًا، والضابط ينظر له ساخرًا ويريد المزيد من الضحك. حتى جاءت سكرة الموت، عفوًا حتى جاءت سيارة الترحيلات؛ والحقيقة أن مراد كان له الفضل في أن نحصل على راحة من هذا الهراء الذي يحدث. ضحى من أجلنا مضطرًا، فكانت هدنة لنا، حتى تم ترحيلنا إلى معسكر السلام

معسكر السلام

  عندما وطأت أقدامنا على أرض معسكر السلام، سألت نفسى لماذا يطلقون عليه السلام؟! أي سلام هذا؟! وجدنا العساكر ترتدى السواد، وتغطى وجوهها، منهم من كان بيده عصا ومنهم من كانت غلاظة يديه لا تحتاج إلى عصا، وقفوا صفين يتطلعون لرؤيتنا، يتسابقون للفتك بنا، مررنا بين الصفين نهرول من عصا لعصا، ومن كف لكف، كانت صفوف العساكر تصل طولها إلى 100 متر تقريبا. دخلنا إلى ساحة المعسكر وجلسنا وجوهنا للحائط، تحل علينا الضربات من الخلف، لا تتسائل لماذا يضربون لأنهم في الغالب قد خلقوا بلا عقول، وهم أنفسهم لا يعلمون السبب؛ لقد شحنهم ضابط ما وأخبرهم أننا نريد إحراق البلد.
   أمرونا أن نهتف باسم السيسى وأن نسب الإخوان (رغم أن الغالبية لم تكن من الإخوان) وأن نقول بصوت عالي أننا عاهرات، وكانت الفتيات تقف خلفنا غير قادرات على شئ سوى البكاء على ما يحدث. بالطبع هتف أغلب الشباب باسم السيسي ونعتوا أنفسهم بالعاهرات، ومنا من رفض فكانت عقوبته أشد، وكانت الضربات تنهال عليه من كل جانب.
     وضعوا الشباب فى زنزانة واحدة وعددهم 62، والفتيات فى زنزانة أخرى، ولم يزودونا بأغطية الشتاء، وكنا حينها في أواخر ديسمبر، كنا نجلس على البلاط، وكان الجلوس أقصى أمانينا، وكنا نبدل أماكننا كي نستطيع الجلوس، مجموعة تقف وأخرى تجلس للنوم، وكان سعيد الحظ من يتمكن من النوم على البلاط.
   ظللنا فى هذا المكان أربعة أيام.


شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة