يظهر على المتصفح وجه حزين يخبرني بأسف شديد "عفوًا، لا تستطيع الوصول إلى هذا الموقع"، لن نعطيك معلومة مفيدة، لن نُخبرك إلا بما تريد المخابُرات، لن تَعلم إلا ما يُريد لك الأمن الوطني أن تعلمه، لن تصل إلى ما تريد دون إذن رجل الأعمال الشهير الذي سيطر على وسائل الإعلام لصالح الرئيس. أتخيل المتصفح يكتب كل ما فات بجوار "عفوًا لا تستطيع الوصول".
يحدث هذا مع كل مواطن مصري يحاول الولوج إلى موقع إلكتروني يحترم عقول الناس، ويقدم معلومة صحيحة في ظل تطبيل إعلامي منتشر على قنوات الرأسمالية والنظام العسكري الذي احتكر كل شئ، وينحاز للضعفاء لا للسلطة الحاكمة، وللمظلومين لا للجلادين، للمنهوبة ثرواتهم لا للفاسدين.
صار تداول المعلومة في مصر محجوبًا، جمهورية مصر المحجوبة بها أكثر من 400 موقعًا حجبتهم جهة مجهولة معروفة، منها هذا الموقع الذي أكتب فيه الآن "مصر العربية" وهو موقع يعمل به 35 صحفيًا نقابيًا، بالإضافة إلى الصحفيين الإلكترونيين، وحاصل على تراخيص من أربع جهات رسمية هي: "وزارة الاتصالات، وزارة الداخلية، ووزارة الثقافة، وهيئة الاستثمار".
قالوا في البداية أنهم يحجبون المواقع لأنها تروج للإرهاب، وقد يصدق الخراف هذا، وأعي ما أقول جيدًا، يمكنني تصديق أن بعضهم يؤيد الحجب لأنه لا يؤيد الحريات ويؤمن بالتعتيم الإعلامي لاستمرار سلطة فاسدة في الحكم، لكني لا أصدق أن هناك من "بني آدم" من يُصدق أن الحجب لمحاربة الإرهاب، موقع تنظيم داعش لم يحجب بعد! لو اطلعت على آخر المواقع المحجوبة وهو موقع "قنطرة" التابع للتلفزيون الرسمي الألماني، لعلمت أنه الإرهاب ليس المقصود وإنما العلم، ولو علمت أن موقع "مراسلون بلا حدود" وهي مؤسسة معنية بحرية الصحافة في العالم، قد انضم إلى المواقع المحجوبة في مصر لعلمت أن المقصود هو حرية الصحافة، وقبله موقع الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، المعنية بحقوق الإنسان وحرية الفكر والتعبير في الوطن العربي، لاتضحت الصورة جيدًا.
لا يتوقف عند تداول المعلومات فقط، دعونا نعترف بالهزيمة، كصحفيين وكُتّاب وكل عامل في هذا المجال، لقد هُزمنا، حاولت مقاومة هذا الاعتراف ولم أستطع، حاولت أن أعبر عن رأيي بنشر ما أكتبه على سبيل استمرار النضال الصحفي وكتبت على مدونتي الشخصية على موقع بلوجر، فحجبوها هي الأخرى. علينا أن نعترف بالهزيمة لا أن نكذب على أنفسنا، يقولون أن الحجب يؤدي إلى مزيد من الإطلاع على المواقع أكثر، وهذه معلومة خاطئة، هذا الموقع الذي أكتب فيه الآن كان يسجل قبل الحجب عدد 30 مليون زيارة في الشهر، ولدي معلومة أن الزيارات بعد الحجب لا تتخطى مليون واحد!.
أعترف بالهزيمة جدًا، أحيانا أشعر بأنني أريد التوقف عن الكتابة، أكتب لمن، الغالبية العظمى لا تستخدم برامج منع الحجب، حتى أنا أحيانًا أشعر بالممل من إعدادت تجاوز الحجب، وعندما قررت عبثًا البحث عن معلومة دون اللجوء إلى برامج بروكسي تصفحت موقع "اليوم السابع" وهو موقع غير محجوب، ومتحدث باسم السلطة الحاكمة، وهنا وجدت هذا الرجل الذي كان متحدثًا عسكريًا في السابق، ويحاول اكتشاف موهبته في الكتابة حاليًا، لكنه لا يجدها حتى الآن، ولن يجدها حتى لو ارتدت الشمس قبعة، ولو عالجت الكفتة الفيروسات، وطبقت الديمقراطية في مصر والبلاد العربية، لن يجدها.
أقرأ له عبثًا، بعدما وجدت له مقال بعنوان "قصة نجاح" ما أخرى هذا العنوان، لكن برغم كل شئ هو عنوان يدعو للتفاؤل، وأنا كنت أبحث عن أي شئ يجعلني أبتهج وأبتعد عن اكتئاب ما بعد الحجب، أفتح "قصة النجاح" الذي قرر الكتابة عنها، فأجد يكتب محاورًا "شباب مصر" بأن عليهم أن ينظروا بعمق إلى قصة نجاح شاب قهر الصعوبات!
= ماذا فعل يا سيادة العميد؟!
- نجح في تسجيل اسمه في موسوعة جينيس للأرقام القياسية.
= لماذا؟!
- لأنه أسرع شاب يمشي على اليدين بطريقة العنكبوت، وأطلق عليه أصحابه "سبايدر مان".
= وما الذي تريد إيصاله يا سيادة العميد؟!
- قصة نجاح هذا الشاب المجتهد أنه استطاع تحقيق حلمه بفريق عمل مصري.
= ثم ماذا؟
- على المختصين في الهيئة العامة للاستعلامات أن ينشروا قصة النجاح الرائعة لهذا الولد بعدة لغات". وانتهى المقال!.
أريد أن أنوه سيادة العميد بأن هناك قصة نجاح أخرى مصرية خالصة، وهي قصة الحجب، ويمكن للجهة الحاجبة الدخول في موسوعة جينيس للأرقام القياسية بصفتها حجبت عدد قياسي من المواقع الإلكترونية، يمكنك أن تترجم قصة النجاح هذه إلى عدة لغات أخرى؛ فقد نجحت جهة مصرية خالصة، بأن تجعلنا نقرأ مقالك بسبب الحجب!.
كما أن الجهة الحاجبة نجحت في أن تجعل النظام الحاكم يتساوى مع الفاشية "بينيتو موسوليني" عندما شكّل لجان من كُتّاب إيطاليا وأساتذته التابعين للفاشية، لإصدار قوائم بأسماء المثقفين وحصر أسماء الكتب التي يمكنها أن تُعلم أي شئ غير الفاشية ليحرقها "على طريقة حجب المعلومة عن الشعب".
ونجحت في أن تضع النظام الحاكم في كفة واحدة مع تنظيم داعش الإرهابي، الذي يجتهد في محاربة الكتب والكتابة والصحافة والفنون، وكل شئ يمكنه المساهمة في أن يُثمر أفكارًا تُخالف عقيدة الدم التي تؤمن بها. الفرق أن داعش تحرق المكتبات العامة والخاصة وصادرت الكتب التي لا تتبنى أفكارهم المتطرفة وأحرقتها، وهذا النظام يكتفي بإغلاق المكتبات أو إسنادها إلى أخبار اليوم لتصير تابعة له.
هذه قصة نجاح، واعتراف بالهزيمة.