مدونات الجزيرة
فيما مضى، كنا نعمل في جريدة واحدة، لكنه اتخذ طريقًا، واتخذت أنا طريقًا آخر. هو يظهر في القنوات الإع.. لامية التابعة للأمن، وينشر صوره مع مسؤول فاسد، ورجل أعمال حرامي، ووزير أَبْلَه؛ وأنا أكتب في مواقع إلكترونية حجبها الأمن، وأنشر صورًا لصحفيين مُعتقلين وسجناء رأي وصورًا أخرى لنفس الوزير الأَبْلَه وهو يرتكب جريمة في حق شعبه. صار زميلي يعيش في وادٍ غير الذي نعيش فيه، يرى إنجازات لا تُرى بالعين المجردة، ويكتب كلمات تجعل القلم الذي يكتب به ينفجر في وجهه من فرط الكذب. قابلته في الشارع صُدفة، وكنا منذ سنوات لم نلتق. احتضنني بود مصطنع، ثم ظهرت أسفل عينيه رعشة تظهر على وجه الكاذب حين يكذب؛ ابتسمت بهدوء.
"سلامات، واحشني، أخبارك". هكذا قال. أخبرته أني بخير، وبدون مقدمات قال: "يقولون أنني "أُطبّل" نظرت له متعجبًا، فلم أسأله عن تطبيل أو رقص، ولا كان في نيتي أن أتحدث معه في هذا الشأن؛ سألته: من يقول هذا؟!
- زملائنا القدامى يقولون أنني أطبل وأنافق؛ وأنا أعترف بهذا ولن أكذب عليك، بالتأكيد رأيت ما أكتبه بنفسك وتعلم أنني أطبل، أخبرني بالله عليك؛ أطبل وأحافظ على عملي، أم أعارض وأُسجن مثلك!
إذا كنت تعيش في أي دولة عربية من المحيط إلى الخليج، وتريد أن تصير صحفيًا له شأن عند السلطة الحاكمة؛ كزميلي الذي أخبرتك عنه، فهذه مسألة بسيطة، اتبع الآتي:
- يقول محمد الماغوط رحمه الله "في ظروف الطغيان، ليست البطولة أن تجلس على ظهور الدبابات، بل أن تقف أمامها". فماذا تنتظر الآن؟ اجلس فوق ظهور الدبابات فورًا وأخرج لسانك للجميع، أنت لا تريد أن تكون بطلًا، لا تريد إلا أن تكون صحفيًا تابعًا لجهة أمنية؛ كيف يحدث هذا؟! يقولون أن "الصحافة هي السلطة الرابعة" ولكنها قد تصبح السلطة الثانية بعد سلطة الأمن عندما تركب الدبابة وتصبح مُخبرًا لدى الأمن؛ لذا عليك أن تُبلّغ الأمن عن زملائك، وقل لهم أن زميلك الفلاني يعارض النظام، ويناصر الفقراء، ويؤمن بالقضية الفلسطينية. اجلس على رأس مدفع الدبابة واعتلي القمة، واستمتع، يحدث هذا لو كان معك تسجيلًا صوتيًا أو فيديو أو صورة لإثبات ما تقوله للأمن على زملاؤك. وهذه أسهل درجات الوصول إلى الأعلى المدفع حيث الاستمتاع، ربما بعدها تجد نفسك رئيسًا لتحرير مجلة أمنية كبيرة، أو تقود مجموعة من اللجان الإلكترونية لتشارك في تشويه صورة المعارضين.
- المصداقية أساس من أساسيات العمل في الصحافة، وغياب أي تفصيل مهم في الخبر، أو إلغاؤه يؤدي إلى عدم نقله بصورة صحيحة للناس ممّا يؤدي إلى نشر أخبار غير دقيقة. لذا فعليك ألا تلتزم بالمصداقية أبدًا، مصداقية الصحفي في أي بلد عربي من المحيط إلى الخليج تجعله يمضي في الطريق الصحيح والمختصر، ولكنه الطريق إلى السجن. إياك أن تكتب خبرًا صادقًا عن الحكومة أو الرئيس، لأنهم لا يفعلون شيئًا حسنًا يستحق الذكر؛ اعتاد الكذب وتدرب عليه جيدًا حتى يصدقك الناس، اكتب وتكلم وتنفس كذبًا، حتى لو أدى ذلك إلى أن تكذب على نفسك.
- علمونا في الصحافة أن علينا التأكد من مصادر الأخبار قبل نشرها، لكن ما تريده هنا حتى تصل إلى صفوة الصحفيين السلطويين، غير المغضوب عليهم، الضّالين، هو التأكد من أن الخبر الذي نشرته أو المقال الذي كتبته لن يُغضب الرئيس، الحكومات العربية الديكتاتورية لا تسامح من يخطئ ولا تنسى، ولو حدث هذا ربما تشاهد مقطعًا مصورًا لك وأنت تمارس الحب، على نفس القناة التي تعمل بها، ينشره زميلك في نفس مهنة التعريض.
- تُعد الموضوعية في الصحافة من إحدى الأساسيات المهمة في العمل الصحفي، وتُعرّف بأنها طرح الحقائق، ونقاش المواضيع دون التأثر بالآراء والأفكار الشخصية، لكن هذا التعريف لا يُعمل به في البلاد العربية، فحاول أن تغلقه ولا تفتحه مرة أخرى. هنا، عليك ألّا تكون موضوعيًا أبدًا، الموضوعية تُستخدم في أغراض أخرى غير الصحافة، قد تكون موضوعيًا في أمور فنية، أو رياضية؛ أما السياسية، فهذه مسألة أخرى. إذا رأيت الأسعار ترتفع إلى حد السماء ويرتفع معها المواطن، فاكتب 20 فائدة لارتفاع الأسعار وقل أنها خطوة تصب في مصلحة المواطن، وإذا وبّخ الرئيس شعبه، فساعده في التوبيخ ووبخ الشعب أكثر واكتب عن تاريخ الشعب الذي أثبته أنه لا يمشي إلا بالكرباج والعصا. اكتب عن أهمية التطبيع مع إسرائيل، واتهم كل من لا يعترف بدولة الاحتلال الإسرائيلي بالخيانة، وقُل على المقاومة الفلسطينية "إرهابية" حتى لو كانت هي المقاومة الوحيدة الصحيحة في البلاد العربية.
- أخبرني أحد الأساتذة أن الثقة في النفس تصنع صحفيًا ناجحًا، لكن ما لم يخبرني به، أن الثقة في النفس لا تقود الصحفي إلى الرفاهية والأجر العادل ولا تؤمن مستقبله، لكنها تقوده إلى المُعتقلات وتؤمّن له زنزانته الانفرادية. لذا عليك ألّا تثق في نفسك كثيرًا، ثق في الأمن، في الرئيس، في رجال المخابرات، في رجال القضاء، في رجال النيابة، في رجال الحزب الحاكم، في الملوك، في الأمراء، في كل خطوة تخطوها الحكومة حتى لو كانت خطوة في الوحل، لو رأيت الرئيس يقود مركبًا تغرق؛ فاكتب تحليلًا معمقًا عن اكتشاف الرئيس عن سر لم يكتشفه العالم من قبل، وهو أن السفينة عندما تغطس في المياه تُضاعف سرعتها 10 أضعاف، ولا تنسى أن تقفز من المركب وقت غرقها.