للمرة الثانية أقضي عيد شم الفسيخ في السجن، والسجن هو المكان الوحيد على أرض مصر الخالي من رائحة الفسيخ.
رائحة الفسيخ منتشرة في كل مكان في مصر في يوم شم النسيم، ومنتشرة طوال العام في قصر الاتحادية ومجلس الوزارء، ووزاة الداخلية.
لا أعلم ما يحدث في الخارج، لكني متأكد أن التليفزيون والراديو يبثان أغنية سعاد حسني "الدنيا ربيع والجو بديع" نحن هنا نشعر أن الجو "فظيع". ولكننا نتفق مع الست سعاد حسني، بأن علينا أن "نقفل على كل المواضيع" وخاصة أن المواضيع هنا مملة؛ كيف سندخل ملابس جديدة بعدما جردونا من ملابسنا؟ لماذا منعوا دخول الفسيخ والرنجة؟ سمعنا أن هناك عفو رئاسي بمناسبة عيد شم الفسيخ. من سينظف الزنزانة في هذا اليوم؟
لا يهم كل هذا، المهم، أن العالم الخارجي سعيد، أو يحاول أن يبدو كذلك رغم حالة الاكتئاب العام التي سيطرت على البلد.
فمثلًا الحاجة فتحية في غاية سعادتها بيوم شم الفسيخ وبالتأكيد ذهبت إلى أقرب أرض زراعية وفرشت الحصيرة الجديدة التي اشترتها مخصوص لهذا اليوم، وجلست مع أولادها يتمتعون بشم البرسيم المزروع في كل الأراضي الشاسعة، بدلًا من القمح والأرز والقطن والقصب؛ فالحمير في بلدنا أعدادها كثيفة، ولحومها أرخص من اللحم البقري بكثير.
فتحية تعلم أن الفسيخ فاسد، فهناك فسيخ للأغنياء رائحته معقولة، ولكنها تفضّل هذا الفسيخ الرخيص، ليس لأنها تحبه، لكن لأنها لا تقدر على شرائه. لا تتعجب من حال فتحية، فهناك من يأكل من الزبالة. فتحية حريصة جدًا فقد اهتمت بأن تأخذ معها كمية كبيرة من شرائط الأنتينال المضاد للاسهال. فكانت تأكل كيلو من الفسيخ وتبلع بعده برشامة أنتينال، شعرت فتحية بسعادة غامرة لأن الاسهال لم يتمكن منها.
لكن ابنها فتحي الابن الأكبر لها، والذي لا يترك مظاهرة مؤيدة للسيسي إلا وشارك بها كي يحصل على وجبة مجانية، نكدّ عليها عيشتها عندما خيرته بين أن تطهو له محشي أو أرز بجوار الفسيخ لأن الفسيخ لا يمكن أن يسد جوعه، حلف بالطلاق عليها وقرر أن تطهو له أرز ومحشي بجوار الفسيخ لأنه يوم واحد في العام. فندمت الحاجة فتحية على ما اقترفته من ذنب. ودعت الله أن يقطع لسانها، ولكن الله لم يستجب دعائها.
قصة الحاجة فتحية ليست مهمة لي ولا لكم، فالأهم من قصتها هي قصة الحاجة فوزية؛ ولا أرى لأهمية قصتها سببًا منطقي سوى أن شعورًا ما يراودني بأن قصتها مهمة للغاية.
الست فوزية وجارتها سعاد ابنة الشيخ "جاحد" إمام المسجد الذي لا يحفظ من القرآن سوى ثلاثة معوذات، فالشيخ جاحد يعتبر أن "قل هو الله أحد" هي المعوذة الثالثة.. نعود لقصتنا المهمة.. فوزية وسعاد أجرّتا ميكروباص من موقف السيدة، وأخذتا الأولاد وذهبوا جميعًا إلى حديقة الحيوان (التي لم يعد بها حيوانات) هناك شئ ما في حديقة الحيوان يشعرهم بالسعادة، لا أعلمه، وكالعادة فرشوا قطعة قماش أمام الغزالة التي كانوا يظنوها زرافة قصيرة.
سعاد ست بيت شاطرة، اشترت الفسيخ قبل عيد شم النسيم بشهر، حتى لا تقف في طوابير الفسيخ، واكتفت بالوقوف في طوابير الخبز، وطوابير أنبوبة الغاز، وطوابير اللحوم والمكرونةالتي تبيعها سيارات الجيش في الأماكن الفقيرة.. أظهرت سعاد ما بحوزتها من فسيخ، ولهطته هي وفوزية والأولاد، ثم شربوا نحو 10 لتر حاجة ساقعة ليست ساقعة.
لكن بعدما فسخوا الفسيخ ولهطوه، ظهرت بعض ملامح الحزن على وجه الحاجة فوزية، فدائمًا ما تقول على نفسها أن قلبها رهيف وموديها في داهية، تذكرت عندما كانت صغيرة وتذهب إلى الحديقة مع اللي يسوى واللي ميسواش، تذكرت معاناتها عندما رأت بائع الورد يبحث عن أي اتنين تحت آية شجرة يختطفان قبلة صغيرة بعيدة عن أعين الناس، فيظهر بائع الورد لهما كالعفريت ويبيع للولد الوردة البلاستيك بثمن بخس بعدما يحرج الشاب أمام حبيبته التي لن يتزوجها لأن الحال ليس ميسور.
بائع الورد يا حبة عين فوزية لم يجد هؤلاء العشاق، فقد اختفوا من الحديقة وظهر بدلًا منهم هؤلاء الأطفال المتحرشين الذي يضعون أيديهم في مؤخرات السيدات، وعندما يجدوا أنثى يلتفوا حولها كالذئاب ويعبثون بجسدها إلى أن يأتي أولاد الحلال الذين سينقذوها من أيديهم بعدما تكون حامل والحمد لله.
قُصر الكلام كي لا أطيل عليكم، أن الحاجة فوزية حزنت من أجل بائع الورد الذي دابت كعوبه من البحث، وقالت لنفسها: فين أيام ما كنت بهرب من المدرسة وأجي هنا كل يوم مع واحد شكل وأنّفع بتاع الورد .
قررت فوزية أن تشتري وردة، ودفعت 5 جنيهات لبائع الورد، وطبعًا اتهمتها سعاد بالجنون وقالت لها: كنت هاتي بيها سندوتشات العيال بتاعة المدرسة.
جلست فوزية تفكر في مصير الوردة، وتذكرت أيام زمان، عندما قطف زوجها عباس، بائع البليلة، زهرة "عباد الشمس" من احدى الحدائق العامة وحاول أن يعطيها لفوزية، لكن فوزية قررت أن تجعل من نفسها خضرة الشريفة، وخلعت نعلها وجعلت من رأس عباس "جزامة" من فرط الضرب على رأسه. هذا الموقف كان بالنسبة لعباس أهم من موقف امبابة، فقرر بعدها أن يتزوجها لأنها محترمة، ومش بتاعة الحاجات دي. مع أنها لم ترفض طلبًا لأبناء الجيران في يوم ما، فكانت تستجيب لكل الاحتكاكات والأحضان والقبلات. لكن عباس اعتقد أنها مش بتاعة الحاجات دي، وقرر أن يتزوجها.
تذكرت فوزية وردة عباد الشمس، وابتسمت، ورغم أنها تصف جوازها من عباس بالخراء، إلا أنها اتخذت قرارًا هامًا، قررت أن تهدي الوردة التي اشترتها ب 5 جنيهات لزوجها عباس. (الغلابة لا يبتهجون بالورد، أكثر من ابتهاجم بقطعة لحم.. لذا آراه قرارًا هامًا) ولفّت الوردة في ورقة جرنال من الأوراق التي كانت بها فسيخ، لكن الورقة كانت نظيفة إلى حد ما، لأنها من طرف الجرنال. وحتى لو لم تكن نظيفة، كانت ستضع الوردة بها.
انتظرت فوزية زوجها حتى مطلع الفجر، وجائها مخمورًا يُغني (حرض عليا بابا مروحش السينما، وأقابلك فين) للشيخ سيد درويش، نجم هذا الجيل.. اندفعت نحوه مسرعة بجسدها البراميلي الذي يشبه برميل الطرشي كما يصفه عباس لرفاقه في الخمارة. وقالت له بحنية أيام زمان، أيام الضرب بالنعل على رأسه:
- أخرت ليه يا عباس؟ البليلية محطوطة ع النار.
- هو انتي عاملة بليلة النهاردة؟ مانتي عارفة إني (هئ) مبحبش البليلة.
اشتمت فوزية رائحة الخمر، فخبطت يدها على صدرها وقالت:
- ينيلك، انت سكران؟ البليلة اللي بتبيعها يا عباس.
- آآآه، طيب كليها انتي عشان هنام.
ظهرت الدموع في عين فوزية وقالت له: كده يا عباس؟ وأنا اللي كنت عاملة لك مفاجأة.
عندما سمع عباس كلمة (مفاجأة) أفاق فورًا، وعاد إلى رشده قائلًا:
- الواحد ميعرفش يهزر معاكي يا غزال؟ هدية ايه؟
ونغزها في وسطها الذي يشبه وسط البلد من حيث الحجم. فضحكت ضحكة تدل على خبرتها في الحاجات دي.
اتجهت نحو الغرفة بدلع لتحضر المفاجأة، ورفعت طرف قميص نومها أبو كرانيش ليظهر قدمها التي تشبه قدم الفيل، وفي أثناء سيرها لاحظت أن عباس ينظر إلى مؤخرتها التي تشبه مؤخرة أتوبيس النقل العام. فحاولت أن تؤرجها رغم أنها تتأرجح وحدها، ثم أصدرت صوتًا من مؤخرتها وقالت:
- لا مؤاخذة يا عباس أصلي واكلة فسيخ وبصل كتير.
هز عباس رأسه راضيًا، من أجل أن يرى المفاجأة، أحضرت فوزية ورقة جرنال الفسيخ، ومدت يدها بكسوف، ففاحت رائحة الفسيخ، فشخر عباس شخرة غليظة وقال:
هي دي المفاجأة؟ جايبة لي فسيخ يا ولية يا خربانة؟
- افتحها بس يا عباس، هتلاقي حاجة بتفكرك بالذي مضى.
فتح عباس ورقة الجرنال، وليته ما فتحها، فرائحة الورد امتزجت برائحة الفسيخ فأنتجت راشحة تشبه رائحة الحكومات الفاسدة. هنا قرر عباس أن يرفع يده حتى وصلت إلى سطح المنزل ثم لطمها على خدها الأيمن، ورفعها مرة ثانية ولطمها على خدها الأيسر. وتركها ذاهبًا إلى غرفته وهو يقول:
-جايبة لي ورد بالفسيخ يا بنت الفسيخة؟ مش الورد ده اللي ضربتيني بالشبشب عشانه؟
ثم نام عباس.
ونحن أيضًا نمنا هنا على برش الزنزانة، من دون أن نشم رائحة الفسيخ.
الاثنين 13 أبريل 2015
عيد الربيع
سجن أبو زعبل