خديجة إسماعيلوفا |
مصر العربية
"نعم، قد أكون في السجن، ولكني سأستمر في العمل وفي كشف الحقيقة، لن يجبروني على الصمت، حتى لو سجنوني 15 عامًا أو 25.
كانت هذه كلمات "خديجة إسماعيلوفا" الصحفية الاستقصائية، أمام المحكمة ب "آذربيجان"، بعد الحكم عليها بالسجن 7 سنوات و6 أشهر في أغسطس 2015؛ بسبب حربًا صحفية قد شنتها على النظام وعلى رئيس الدولة نفسه، كشفت فيها فساده وسرقته لثروات البلاد.
قصة "خديجة" تستحق الكتابة والتوثيق، لأنها رسالة قوية لأولئك الذي يؤمنون بأن القمع يمكنه أن يقضي على الأصوات المطالبة بالحرية. رسالة مفادها بأن النظام الذي يعتمد في استمراره على كسر الأقلام، ومنع التصوير، واعتقال المتظاهرين السلميين، وتشويه المدافعين عن حقوق الإنسان واتهامهم بالعمالة، لا يغير من الأمر شيئًا، بل يزيد أصحاب الحق ثباتًا وإصرارًا على مواقفهم في كشف الحقائق ومقاومة الظلم والفساد، فكثيرًا ما انتصرت الأقلام على الأسلحة:
كيف تحولت "خديجة إسماعيلوفا" إلى صحفية استقصائية؟
لم يكن في خطة "خديجة" المستقبلية أن تصير صحافية استقصائية، فكانت على قناعة تامة بأن عليها أن تكون صحفية يومية.
وفي 2 مارس 2005، حدث ما غير حياتها بشكل كبير، فقد قُتل الصحافي الاستقصائي البارز "إلمار حسينوف" رئيس تحرير جريدة "مونيتور" الأسبوعية المعارضة التي تصدر في "باكو" رميًا بالرصاص بالقرب من منزله، وقد كان "حسينوف" مُعارضًا شرسًا، وفاضحًا لسياسات الرئيس الأذري "إلهام علييف" وحكومته، وكان قد تعرض للإنتقام الإعلامي ووصلته تهديدات بعد اصراره على المعارضة والنقد الفاضح للنظام، ولكنه لم يتراجع عن موقفه وأصرّ على أن يموت واقفًا في وجه الظلم، بدلًا من العيش وسط قاذورات الإعلام المتسخة التي تتكرع كذبًا من أجل منافقة الأنظمة.. وكانت هناك شواهد تشير إلى أنه قتل بأمر من الرئاسة، فقد كان مصباح مدخل منزله مكسورًا، كما قُطعت خطوط الهواتف في الحي. وبعد عامين من قتله، نشر زميله "إينولا فاتولاييف" تحقيقًا استقصائيًا بشأن جريمة القتل، أظهر فيه أن "حسينوف" قُتل بأمرٍ من مسؤولين كبار، وأن منفذي الجريمة جماعة إجرامية مأجورة. لكن النظام الغبي الذي لا يعلم من اللغات سوى لغة القمع اعتقل "فاتولاييف" بعد تحقيقه الصحفي، واتهمته النيابة بتهم ملفقة وصدر بحقه حكم بالسجن ثماني سنوات.
لكن الصحافة الاستقصائية لم تقتل بمقتل "حسينوف" ولم تسجن باعتقال "فاتولاييف" فجريمة القتل هذه أنتجت صحفية بارعة إسمها "خديجة إسماعيلوفا" قررت أن تكمل مسيرة "إلمار حسينوف" وأن تصير صحافية استقصائية تكشف فساد النظام اﻵذري.
وقالت "خديجة" في أثناء حصولها على جائزة الشجاعة تعليقًا على جريمة القتل:"كان أول شيء فكرت فيه عندما سمعت أن "حسينوف" قد قُتل بأنها مسؤوليتي، وبأنه خطأي، لأنه كان يحارب الفساد وحده وكان يناضل من أجل أن تظهر حقيقة الفاسدين؛ أما نحن فاخترنا أن نعمل بالصحافة السهلة.
بعدها ظلت "خديجة" تعمل في التحقيقات الصحفية الكاشفة والفاضحة من دون خوفٍ يتسلل إلى نفسها، وخاضت بقلمها حربًا عنيدة ضد النظام القمعي، فقد كتبت عن الممارسات التجارية الفاسدة، وشاركت في عمل مشروع "تقارير الفساد والجريمة المنظمة" كما كشفت الفساد والمحسوبية داخل أعلى مستويات القيادة في أذربيجان، ولم تعرف حينها حدودًا فقد كشفت فساد زوجة الرئيس إلهام علييف وابنته، حيث نشرت تحقيقًا يفيد بأن زوجة الرئيس استفادت من عقد لبناء قاعة كريستال، كما كشفت "إسماعيلوفا" بأن عائلة "علييف" تسيطر على المكاسب الناتجة من منجم الذهب. وكشفت للرأي العام عن صفقة تخصيص "شركة الطيران" وكيف استفادت أسرة الرئيس منها؟ وفضحت فساد أكبر شركة اتصالات في أذربيجان.
وفي عام 2010، كشفت عن عملية فساد ضخمة، وصفقات امتلاك سرية، وسط التعاملات الحكومية في عدة مجالات؛ مثل الاتصالات؛ والبناء؛ والتنجيم عن الذهب والفنادق ووسائل الإعلام وخدمات الطيران.
وبعد أن أظهرت شجاعتها وسعيها لكشف فساد النظام مهما كانت العواقب؛ حصلت على جوائز دولية عديدة؛ وطبعًا لم انطلقت جراثيم تتهمها بالخيانة والعمالة للخارج، ﻷنها كشفت فساد النظام، ولأنها فضحت النظام أمام العالم، فكل الأنظمة الفاسدة والقمعية لديها إعلام يجعلها تستمر في قمعها. إعلام كهذا الذي يظهر به أحمد موسى، وعزمي مجاهد. إعلام لا يملي على الرأي العام سوى ما يكتبه ضابط بالأمن الوطني.
لم تبالِ "خديجة" بتشويه الإعلام، فحاولت جهة ما، إرهابها وتهديدها بنشر صور شخصية مع حبيبها؛ جاء في الرسالة: "أيتها العاهرة تأدبي؛ أو سوف يتم التشهير بكِ"
ولكن "خديجة" لم ترهبها الرسالة وكتبت في بيان لها: "لقد قلت أنني لن أتوقف عن مواصلة كشف الحقيقة، وأنني لن أسكت، فأنا لا أخجل من أي شيء في حياتي، عليهم هم أن يخجلوا من فسادهم، وإذا كانوا يعتقدون أنهم لو قاموا بتشويهي سأتوقف؛ فإنهم خاطئون"
بعدها أطلقت وسائل الإعلام حملاتها الأكبر ضدها؛ فقد كان الرأي العام لا حديث له سوى عن تحقيقاتها الصحفية، فقد قامت Yeni Azerbijan المدافعة عن فساد النظام، والتي كانت لديها قدرة كبيرة على الكذب والنفاق والتدليس؛ بنشر صورًا لخديجة مع حبيبها. بُناءً على تعليمات من الأمن. وهو أمر ليس باليسير المجتمع اﻵذري، فهو مجتمع يشبه في عاداته مجتمعنا المصري، يمكنه أن يستقبا اغتصاب النظام لأراضي الوطن باستمتاع، ويشاهد أخبار الاعتقالات كأنها أخبار عن كرة القدم، ويستقبل أخبار القتل بسعة صدر، لكنه لا يمكن أن يتحمل رؤية صورًا لفتاة تقُبّل حبيبها.
لكن المفاجئ أن "خديجة إسماعيلوفا" لم تخجل من الصور التي نشرتها وسائل الإعلام، وقصفت جبهتي النظام والإعلام، واعترفت بأن الصور ليست مفبركة، وأنها بالفعل صورًا لها مع حبيبها، وصرحت: "بأن الذي يجب أن يخجل هو من وضع كاميرات في منزلي ليتجسس عليّ، فأخلاقي لا تسمح لي بإختراق خصوصية الناس"؛ وتقدمت ببلاغ لمكتب المدعي العام، ولكن النيابة لم تحقق في الأمر بناء على أوامر سياسية.
قررت "خديجة" أن تكمل طريقها رغم ما حدث، ولكن النظام ازداد غضبًا على غضبه، فقرر اعتقالها في ديسمبر 2014، بتهمًا وهمية تشبه تلك التهم التافهة التي يُتهم بها النشطاء والصحافيون والحقوقيون في مصر.
فمن التهم التي وجهتها المحكمة ل "خديجة": الاحتيال؛ والاختلاس؛ والتهرب من دفع الضرائب؛ وإساءة استعمال السلطة؛ وفي أثناء اعتقالها وجهت لها المحكمة تهمة عجيبة "التحريض على انتحار موظف أثناء وجودها في السجن"
"خديجة" تعلم أنها تحارب من أجل قضية تؤمن بها، فلم تتوقف عن الكلام،ولا الهتاف، ولم تتوقف عن الكتابة وكشف الحقائق حتى في أثناء احتجازها. فقد كانت قوات الأمن تضعها في قفص زجاجي آثناء محاكمتها كي لا تستطيع أن توصل رسالتها لوسائل الإعلام، ولكنها كانت تكتب رسالتها على ورقة وتلصقها على زجاج القفص، فقد فضحت ممارسات الأمن في السجن، وكتبت أن في السجن بنات قاصرات قد تظاهرن ضد التضييقات عليهن وطرقن أبواب الزنازين، وأن الأمن قد تعامل معهم بأن وضعهم في زنازين انفرادية غير آدمية. وأدت رسالتها إلى أن تحركت منظمات حقوقية للتضامن مع القاصرات، وبالفعل تم نقلهن إلى زنازين آدمية.
ظلت "خديجة" تُهرّب مقالاتها ورسائلها للخارج، ولم تتوقف عن الكتابة رغم تعرض زنزانتها للتفتيش بشكل مستمر، ورغم التضييقات التي كان يتعرض لها كل من يزوها.
في 8 أبريل 2016، وهي بين جدران السجن، ظل إسمها يطارد النظام القمعي، فقد تم إعلان ترشيح "خديجة إسماعيلوفا" لجائزة اليونسكو"جيليرمو كانو" العالمية لحرية الصحافة 2016، وبالفعل حصلت عليها في 3 مايو الماضي.
وتعتمد الجائزة العالمية في اختيارها على أولئك الذين قدموا مساهمة قوية في الدفاع عن حرية الصحافة، وخاصة عندما يواجهون الخطر. فكانت الجائزة بالنسبة لخديجة دعمًا معنويًا وماديًا لأن تكمل ما قد بدأته، وكانت بمثابة صفعة على وجه النظام القمعي الفاسد ووسائل إعلامه.
وفي نهاية الأمر انتصر القلم على القمع، فانتصرت خديجة على نظام بأكمله، وبالأمس الأربعاء 25 مايو، أفرجت السلطات اﻵذرية عنها، تفاديًا لفضيحة عالمية كبرى، بعد أن كانت هنالك حملة عالمية للإفراج عنها في عيد ميلادها الـ 40، 27 مايو 2016.
اﻵن ستخرج "خديجة" لتحتفل بعيد ميلادها مع من دافعوا عن قضيتها، ستخرج منتصرة على نظام لا يعرف سوى لغة القمع، وإعلام لا يجيد إلا النفاق وتشويه المعارضين، وقضاء شامخ يحكم بأهواءٍ سياسية، ستخرج لتكمل مسيرتها في كشف الفساد، ودائمًا سينتصر القلم على القمع.