حتى لا يأكلكم البُعبُع




البعبع في مصر، شبح لا ملامح له، كنا نخافه في الصغر، وكانوا يقولون لنا لا تذهبوا إلى عماتكم ولا تخرجوا ليلًا ولا تفعلوا كذا وكذا، حتى لا يأكلكم البعبع ، ظللنا نخشى البعبع من دون رؤيته، وظلت الأسطورة مخيفة ومرعبة حتى كبرنا وكبرت عقولنا إلى حد ما، واكتشفنا إن البعبع الوحيد الحقيقي هو "جهاز أمن الدولة" فلا يوجد بعبع بقرون طويلة وأسنانه ظاهرة، ولا يوجد كلب برأس أسد يطرق الأبواب ليلًا ليأكل أذاننا لأننا لا نسمع الكلام.

 
أسطورة السجين الجنائي كاذبة، هو إنسان مثلنا، له ما له وعليه وما عليه، والبعبع الحقيقي الذي علينا أن نخشى منه هو جهاز الأمن الوطني المسعور.
 


فـي الأساطير اليابانية؛ البعبع هو الغول الذي يبحث عن الأطفال المشاغبين في كل عام جديد ليعاقبهم.

في الأساطير الكورية، هو نمر يجلس بجوار المنازل وينتظر اللحظة التي يصرخ فيها الأطفال فيأكلهم.

في الأساطير الإسبانية، يظهر رجل "جوز الهند" للأطفال الذين لا ينامون مبكرًا، ورغم أن ثمرة جوز الهند شئ طيب إلا أنه في مخيلة الأطفال رجل شرير.
في السجون المصرية؛ توجد أسطورة البعبع أيضًا، اسمها أسطورة السجناء الجنائيين؛ "لا تقترب من الجنائيين وإلا سيفتكون بك، سيغصتبوك، سيسرقوك، سيقرفونك في عيشتك ويجعلوك تنام في دورة المياه، سيقطعون قضيبك"

كلها أساطير غير صحيحة، ولا يجب التعميم أبدًا، السجناء الجنائيين ليسوا جميعًا مجرمين، منهم من دخل السجن ظلمًا، ومن سجن لأمور تافهة ك "سرقة تيار الكهرباء" مثلًا.

 كنت مثل الجميع؛ أنظر إلى الجنائيين على أنهم بعبع لا يجب الاقتراب منه، بعبع تهددنا به وزارة الداخلية، فالجنائي كان بالنسبة لي عبارة عن شخص غريب رسم وشومًا غريبة في  كل مكان في جسده، وكتب أسماء حبيبته على كتفه، وشوّه اسم محببوته الأولى على الكتف الآخر، الجنائي الذي في أسطورة البعبع ينتظر الفتك بك؛ وهذا ليس صحيحًا.

يمكننا القول أن من يعاديهم قد يهلك، ولكنهم مثلنا، يحبون، ويحترمون، ويفهمون، ويخافون، ويتمنون الحياة، ويجرمون.

دعني أخبرك أن الفرق الوحيد بين السجناء الجنائيين والسياسيين، هو أنه إذا تعذب مسجون جنائي حتى الموت، لن يهتم به أحد، نحن السياسيون وأصحاب الرأي نتعرض لـ 1% مما يتعرض له الجنائيين، ولكن قد تغضب المنظمات الحقوقية وبعض أقلام الصحافة الحرة لأجلنا، هم لا يهتم بهم أحد.

لو كنا نجلس في زنزانة وعددها وصل 40 سجينًا ولا نستطيع العيش فيها، فنفس الزنزانة لدى الجنائيين تتسع لمائة شخص وأكثر.

في إحدى المرات صعد رئيس مباحث سجن أبو زعبل السابق، واسمه أسامة مشهور، إلى العنبر السياسي، ومرّ سجين جنائي يوزع الجراية (الخبز) على الزنازين، ومن دون سبب، سحب "مشهور" برنيكة الخبز الفارغة منه، وضربه بها على رأسه، فارتطم سن البرنيكة برأس السجين الجنائي، ففتح في رأسه شقًا عميقًا؛ وكل ما حدث أن السجين كان يبكي، وينتظر طبيب السجن حتى يأتي أمام باب العيادة ليداوي رأسه؛ ثم يعود إلى زنزانته ككلب تعذب على يد طفل عديم التربية ومعقد نفسي؛ وبالصدفة كنت أنتظر الطبيب، فقابلت السجين هناك، وأخبرني أنهم "كتبوا في محضر أنه حاول الانتحار" ولما قلت له "كيف توافق على شئ كهذا؟" تعجب من سؤالي وقال: "يا عمي نحن لا ثمن لنا، يمكنهم أن يفعلوا بنا ما شاءوا ولن يهتم أحد مثلكم، هل تظن أننا لو اعترضنا على شئ مثلكم سيرحمونا، أقسم لك سيتركون علينا الكلاب السعرانة في الزنازين" سألته إن كان يريد مني المساعدة، أو أن أرسل اسمه وبياناته للمجلس القومي لحقوق الإنسان كي يتخذوا أي إجراء، فوافق؛ ولكن في اليوم التالي تراجع، وأخبرني أنه لا يضمن وقوفه معي حتى النهاية، وقد يبيعني ويقول أني كاذب لو ضربوه، فتراجعت عما كنت أنوي فعله.

في بداية دخولي السجن كنا في عنبر به سجناء جنائيين في الطابق الأرضي، وكنا نقدر على التواصل معهم، وأريد أن أخبركم بأن الصديق الجنائي لو كان مخلصًا، سيعلمك أشياء تخدمك لن يستطيع الجن الأزرق أن يعلمها لك، وأن من كان يهرّب رسائلي سجين جنائي، ومن كان يساعدني في العثور على أقلام وكتب وأوراق سجين جنائي، ومن كان يصلح لي الراديو سجين جنائي، لكن هذا لا يعني التسليم لكل سجين جنائي، فبينهم من كانوا يعملون لصالح الأمن، كما كان في السجناء السياسين مثلهم.

أظهر كثير من الجنائيين تعاطفهم معنا بشكل كبير، ونظروا لنا على أننا مثقفين ومتعلمين ولا يجب أن نبقى هنا، كما تعاطفوا أكثر مع شباب الجامعات، وكانوا يحبون أن نصير أصدقائهم، وبالمناسبة لما علمت إدارة السجن بأن هناك تواصل ونقاشات دائرة بين السياسيين والجنائيين، أخلوا العنبر من كل الجنائيين، وصار يُطلق عليه العنبر السياسي، وصار سجن أبو زعبل لا يختلط فيه الجنائيين بالسياسين أبدًا، نظرًا لخطورة الأمر بالنسبة لجهاز المباحث، فيجب ألا يعرف الجنائيين أي حق من حقوقهم، ويجب ألا يختلطوا بأصحاب الأفكار، وإلّا يكون هناك خطر على الفكر الذي يتمسك به النظام.

***
أذكر أن هناك من غضبوا من أجلي وقتما دخلت زنزانة التأديب أسبوع كامل، فأسبوع في زنزانة التأديب كفيل بأن يقتل السجين، أو  يجن جنونه على الأقل، وكان أمر جيد ويستحق الشكر والتقدير أن تنتفض منظمات حقوقية جادة ونشطاء للاعتراض على دخولي التأديب، لكني حينما كنت في التأديب رأيت من السجناء الجنائيين من قضوا به أكثر من 4 أشهر، وعلمت أن في هذا المكان مات سجناء لم يسمع عنهم أحد، علمت أيضًا أن الضباط والشاويشية لا يتعاملون مع الجنائيين إلا بالعصا، تعالى هنا مصحوبة بـ"ضربة عصا"، اذهب هناك يتبعها"ضربة عصا"، ما الذي تخبئه في ملابسك سؤال لا يسأل إلا بـ "ضربة عصا"، يعاملونهم كما الغنم، حتى راعي الأغنام يخشى على غنمه من الموت ولا يعاقبهم بهذا الشكل.

 
لو كنا نجلس في زنزانة وعددها وصل 40 سجينًا ولا نستطيع العيش فيها، فنفس الزنزانة لدى الجنائيين تتسع لمائة شخص وأكثر.
 


أما نحن فكنا نتلقى ضربات العصا كل حين، وكنا ننتفض ونهتف ونقاوم ويدافع عنا بعض من هم في الخارج؛ كانت سلطة السجن تخشى غضبنا رغم كل جبروتها وجرائمها.

إن أسطورة السجين الجنائي كاذبة، هو إنسان مثلنا، له ما له وعليه وما عليه، والبعبع الحقيقي الذي علينا أن نخشى منه هو جهاز الأمن الوطني المسعور، أو كما أسميه "الأمن النظامي".

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة