تعد السخرية السياسية بما فيها
«الكوميكس» الذي انتشر مؤخرًا، أسلوبًا من أساليب التغلب على الصعوبات التي
تواجهها الشعوب، لا سيما الشعب المصري الذي يعد من أكثر الشعوب تفاعلًا مع
الكوميكس على وسائل التواصل الاجتماعي. يبدو أن انتشار الكوميكس نتيجة للسياسات
القمعية التي ينتهجها الحكام على مر العصور.
إن أكثر الرؤساء والزعماء تعرضًا
للسخرية هم الذين ظنوا أنفسهم ملوكًا لا يجب أن يحاسبهم أحد، فلاسفة يفهمون كل
شيء، عباقرة يملكون الحلول السريعة، أقوياء قادرون على محاربة العالم كله، ولكنهم
في النهاية يقودون البلاد إلى مزيد من الفقر والجهل والغلاء، ويقمعون الحريات، ثم
يعلنون للعامة أن كل شيء على ما يرام، وعندما تكتشف الشعوب أن كل شيء ليس على ما
يرام يبدأون في وصلات التهكم والسخرية ضد حكامهم.
عُرف عن شعب مصر القديم أنه دائمًا
يُقابل القمع والظلم والغباء بالنكات والكوميكس، في عصور ما قبل التاريخ برديات
فرعونية رسمها المصريون القدماء، منها مثلًا: سفينة يقودها حمار؛ للدلالة على غباء
النظام السياسي (الحمار) والسفينة التي ستغرق تحت قيادته (الوطن)، بردية أخرى
لعربة يقودها فأر؛ للدلالة على أن هذا الفأر جبان لا يملك الشجاعة للمواجهة.
بعض كتب التاريخ ذكرت أن المصريين
القدماء قد أطلقوا على بطليموس الثامن لقب «فسكون –
physkon» بمعنى: البدين؛ لأنه كان مفرطًا في الطعام ومعاشرة النساء ولم يهتم
بأمور شعبه حتى التصق به لقب فسكون من عام 169 قبل الميلاد إلى وقتنا الحالي.
تطور
الكوميكس
اقتصر فن الكوميكس في مصر
سابقًا على قصص الأطفال، مثل مجلة «ميكي» المصورة التي تصدر أسبوعيًا
بترخيص من شركة والت ديزني بعدة لغات، وقد كانت تصدر في مصر منذ عام 1959 عن دار
الهلال ثم توقفت عن إصدارها في عام 2003 بسبب مشاكل مع ديزني، وأعادت إصدارها دار
نهضة مصر في شهر يناير/ كانون الثاني 2004م. ومجلة«سمير»، التي صدرت للمرة الأولى في الخامس عشر من
أبريل/ نيسان عام 1956 عن دار الهلال المصرية،
ورُسمت فيها شخصيات حفظها أطفال مصر جيدًا وعاشت معها فترة ليست قصيرة.
خرج الكوميكس من قصص الأطفال
إلى توجيه رسائل سياسية ساخرة وأخرى اجتماعية واقتصادية ورياضية وفنية وغيرها. في
عام 2008 تعد تجربة مجدي الشافعي إحدى التجارب الهامة في نقل الكومكيكس إلى الساحة
السياسية، حيث أصدر رواية مصورة بعنوان «مترو»، تدور حول
مهندس كمبيوتر يشعر بإحباط من المستقبل فيسرق بنكًا ليجد نفسه وسط مؤامرة فساد
كبرى متورط فيها عدد من رموز الحزب الحاكم. صودرت الرواية وفرضت غرامة على الكاتب.
أما مجلة «توك توك» التي
صدرت في مطلع عام 2011، هي مجلة رسوم هزلية باللغة العربية، تعد واحدة من بين أنجح
التجارب التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة في مصر، ومن فريق تحريرها: محمد
شناوي، وهشام رحمة، وأنديل، ومخلوف، وتوفيق.
إلى وسائل
التواصل الاجتماعي
حديثًا انتقل فن الكوميكس من
المطبوعات إلى وسائل التواصل الاجتماعي، لكن بأسلوب مختلف عن الرسوم السابقة،
فالكوميكس في العصر الحالي عبارة عن صور مركبة تحمل تعليقًا ساخرًا، وتحاول إيصال
فكرة هادفة. مع انطلاق ثورة 25 يناير/ كانون الثاني عام 2011، انتشر هذا النوع من
الكوميكس، وصارت وسائل التواصل الاجتماعي مزدحمة بأفكار عديدة وبتعليقات قصيرة
ساخرة من كل شيء له علاقة بالشأن العام تقريبًا، حتى الأمور الدينية ذاتها باتت
عرضة للنقد بالأسلوب ذاته.
تحطيم
الأصنام
نجح الكوميكس ببراعته ورشاقته
في القصص المصورة ليوصل رسائل عديدة مختلفة، ليست لمجرد الضحك والسخرية فقط؛ إنما
لتوصيل رسائل وآراء وأفكار مختلفة. لا يعترف عالم الكوميكس بقداسة الأشخاص، لكنه
يكسر هيبة الجميع مهما بلغت عظمة بنادقهم أو أقلامهم أو قنواتهم الإعلامية. لم
ينجُ كل الرؤساء المصريين تقريبًا من سهامه، حتى هؤلاء الذين لم يعاصرهم جيل
الثمانينيات والتسعينيات، من أول الرئيس الراحل «محمد نجيب» مرورًا بالرئيس الراحل
«جمال عبد الناصر»، ثم السادات ومبارك، و«محمد مرسي» والإخوان، والرئيس الحالي
«عبد الفتاح السيسي». كما أن زعماء المعارضة ورجال الدين والإعلاميين والرياضيين
والفنانين والكتاب والصحفيين والمؤسسات، لم يسلموا كذلك من سهام الكوميكس.
الترند
انتشر مؤخرًا ترند «جمال عبد
الناصر»، متجاهلًا كتب الدراسات الاجتماعية في المناهج الدارسية والأفلام المدعومة
من الدولة، ومعتبرًا أن ناصر مثال للهزيمة، بسبب هزيمة حرب 1967 التي تُعرف في كل
من سوريا والأردن باسم «نكسة حزيران»، وفي مصر باسم «نكسة 67»، وفي إسرائيل «حرب
الأيام الستة»، وهي الحرب التي نشبت بين إسرائيل وكل من مصر وسوريا والأردن بين 5
يونيو/ حزيران 1967 والعاشر من الشهر نفسه، وأدت إلى احتلال إسرائيل لسيناء وقطاع
غزة والضفة الغربية والجولان.
صار ناصر بالنسبة للكثير
رمزًا للفشل والهزيمة، إذا أراد أحدهم التعبير عن فشل طلاب في الثانوية العامة، أو
عن هزيمة منتخب لكرة القدم، أو حتى عن هزيمة في خناقة أطفال في الشارع، ببساطة
شديدة سيكون ناصر هو بطل الكوميك. نحن أمام جيل كفر بفكرة الزعامة التي يؤمن بها
الناصريون، ولا يؤمن بفكرة منقذ البلاد العربية.
مع انتشار ترند ناصر، ربما يشعر البعض بأن هناك اتجاهًا إخوانيًا وراء هذه
السخرية، لكن سرعان ما ظهر السادات في عالم الكوميكس ليقضي على مؤامرة أن الإخوان
وراء كل شيء، يمثل السادات في عالم الكوميكس الخذلان والخيانة والاستسلام وربما
الصوت العالي والأمور غير المدورسة جيدًا والتي أدت إلى موته، معتمدين في الترند
على اتفاقات كامب ديفيد التي وقعها الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء
الإسرائيلي مناحيم بيجن في 17 سبتمبر/ أيلول 1978، وعلى قتله بمساعدة بعض أصدقائه.
قضى رواد ترند السادات بضغطة زر وتعديلات بصرية بسيطة على أسطورة أن السادات بطل
للحرب والسلام، وأنه المنتصر الذي لم يُقهر من العدو، فيما يبدو أنه كفرٌ بمواضيع
الإنشاء التي حفظوها فقط ليجتازوا عامهم الدراسي.
نحن أمام أفكار كانت قبل ثورة
يناير غير مطروحة بشكل كبير، هناك من يعتبر أننا لم ننتصر في حرب أكتوبر، يقولها
ولا يأبى ردود الفعل. لم يكن ذلك متاحًا من قبل! لم تذكر كتب التاريخ مثلًا ما قاله كارتر عن أنه أجبر السادات على قبول التطبيع
الكامل، بما في ذلك فتح الحدود والاعتراف بها وإقامة علاقات دبلوماسية، مع تبادل
السفراء في غضون أسابيع من الانسحاب الإسرائيلي، بجانب تطوير العلاقات الاقتصادية
بين مصر والاحتلال، لكن الكوميكس قالتها.
من هؤلاء إذن؟ إنهم يسخرون من ناصر والسادات معًا، ليس هذا وحسب، انضم القيادي في جماعة خيرت الشاطر لترند الكوميكس، لنصبح أمام ثلاث أفكار مختلفة يتداولها تقريبًا نفس رواد الإنترنت. هذا الجيل لا ينسى ولا يسامح، ولا يستمع لكلمات معسولة وبيانات لا تفيد. أدرك رواد الكوميكس أن الإخوان كانوا من الأسباب الرئيسية في ضياع ثورة يناير، وقالت الكوميكس ما لم تقله مقالات مطولة، انتشرت كوميك عن خيرت الشاطر تُعبر عن أن الرجل كان سجينًا، ولما حدثت ثورة يناير 2011 أخرجته من السجن، ولما خرج أفشل الثورة، وعاد إلى السجن مجددًا.
الأمر صادم لأطراف عدة، تلك
الأطراف التي تعتقد أن انتشار الكوميكس مؤامرة إخوانية لأنها تنال من هيبة الدولة
وهيبة التاريخ، وأخرى تقدس رموز الإخوان أو التيارات الإسلامية وكانت تشارك في
ترند ناصر، لكنها وجدت نفسها في دوامة الترند التي لا يعلم أحد متى تنتهي إلا
الله.
لم تعد هذه الأجيال، التي لم
تجد مساحة للتعبير عن رأيها خارج وسائل التواصل الاجتماعي، تؤمن بأن هناك أصنامًا
يجب تعظيمها وعدم انتقادها، أو تؤمن بأن هناك خطوطًا حمراء، وربما اقتربوا من
الكفر بفكرة الدولة التي تحميهم أو تدافع عن حقوقهم. كل الأفكار والأشخاص في النقد
والكوميكس سواسية، كل من ارتضى أن يكون شخصية عامة سيأخذ دوره في الترند.