أزهى عصور الحجب

كاريكاتير الفنان أشرف


"ما يتم التعتيم عليه هو في الغالب أكثر أهمية مما يُقال" - جورج أورويل.

***
حرية الصحافة مكفولة في دستور كوريا الشمالية، الدولة الأكثر سرية في العالم، لكن حرية الصحافة في الدستور ليست إلا حبر على ورق، فكوريا الشمالية في مؤخرة البلاد التي تحترم حرية الصحافة، حسب تصنيف "مراسلون بلا حدود" في مؤشر حرية الصحافة، هذا بالإضافة إلى تركمانستان وإريتريا.

فالزعيم الكوري الشمالي "كيم جون أون" الذي يظهر بشكل مستمر في وسائل الإعلام وهو يتحدث لمجموعة من رجاله العسكريين أثناء حضوره مناسبة ما، في مدرسة ما، أو مصنع ما، والذي يحاول تصدير صورة للعالم توحي بأنه يفهم في كل شئ، وفيلسوف في كل شئ، ويعطي تعليماته وأوامره في كل شئ، حتى أن من بين رجاله من يدون كل كلمة يلقيها الزعيم، وطبعًا لا يتم نشر هذه الأوامر والتعليمات؛ قد حجب أغلب الوسائل الإعلامية غير التابعة للدولة، حتى أن المواطنين قد يواجهون  خطر الاعتقال في حال استماعهم إلى محطة إذاعية أجنبية.. يحدث هذا في ظل نظام يدّعي تطبيق الاشتراكية!

***
في رواية 1984 لجورج أورويل، التي تدور أحداثها عن المستقبل في مدينة لندن، يجد الصحفي وينستن سميث، الذي يعمل في وزارة الحقيقة، نفسه مُراقبًا من رجال الشرطة ومن جيرانه، رغم أنه ليس مجرمًا ولا ملاحقًا أمنيًا وليس إرهابيًا، ولا يعمل في وظيفة محظورة، ولكن الرقابة 1984 باتت من ضروريات الحياة، الرقابة نوع من السلوكيات اللاإرادية في المجتمع؛ و"الأخ الأكبر يراقبك".

***
عندما يطالب العمال بزيادة رواتبهم، لأن المعيشة باتت لا تُطاق من الغلاء الفاحش، فنحن "فقراء أوي" ويجب اعتقال هؤلاء العمال لأنهم يريدون زعزعة الاستقرار.

نحن "فقراء أوي" عندما يحتاج الفقراء إلى دعم السلع الأساسية، وإلى الخبز، وإلى السكن، وإلى العلاج.

نحن "فقراء أوي" عندما يحتاج الشباب إلى وظائف.

نحن "فقراء أوي" لذلك لا تتردد في فرض غرامات على أتفه الأشياء، حتى أن محامي حقوقي أشار بإصبعيه لنا، ففرضنا عليه غرامة قدرها 1000 جنيه، وعندما تنازلنا عن جزيرتين لأننا "فقراء اي" اعترض المخربون، ففرضنا عليهم غرامات مجموعها 5 مليون و700 ألف جنيه من أجل الوطن.

نحن "فقراء أوي" لذا سنرفع الدعم، ونطبق ضرائب جديدة على كل شئ، حتى أننا قد نعرض على البرلمان قانونًا يفرض الضرائب على الحياة والموت، الهواء والماء، الكتابة والقراءة، الذكاء والغباء، الضحك والبكاء، وعلى كل رشفة قهوة، وكل ليلة خميس سعيد بين زوجين تعيسين.

الفقر يجعلنا نفعل المستحيل، من أجل يبقى الجميع فقراء كما هم، وتظل السلطة الحاكمة بعيدة عن كل هذا الفقر.

لكن عندما يتعلق الأمر بمواقع صحفية حرة، لا نستطيع السيطرة على أخبارها، ولا تمر تقاريرها ومقالاتها على الأمن الوطني للمراجعة والتعديل والحذف، فهذه مسألة أخرى، ونحن أغنياء جدًا.

***
"كلما ازداد ابتعاد المجتمع عن الحقيقة كلما ازدادت كراهيته لمن يتحدثون بالحقيقة" - جورج أورويل

نحن "أغنياء أوي" ولن نقبل بأن يقرأ الجمهور ما لم نحدده نحن، وسنجعل المجتمع يكره كل هؤلاء العملاء الذين يقولون الحقيقة.

نحن "أغنياء أوي" وندعم الصحافة الحرة التي تهتم بمؤخرة كيم كاردشيان، بحواجب فيفي عبده، بأنف إليسا، بصدر أنجلينا جولي.

***
حجب المواقع بحسب خبراء يتكلف ملايين، ويؤدي إلى بطء عام في شبكات الإنترنت.

ففي تصريح يعود إلى عام 2012، قال الدكتور ناجى أنيس خبير الاتصالات ورئيس شركة جى بى آى مصر "إذا تمت الموافقة على حجب المواقع الإباحية ستكون ذريعة للحجب الكامل للإنترنت بعد ذلك، هذه خطوة لخطوات أخرى لو وضعنا أقدامنا على أول السلم هنصل للآخر"، وأضاف "كل الدول التى تقوم بحجب شبه كامل للمواقع الإباحية مثل السعودية وإيران والصين، كل ما تم حجبه فى النهاية المواقع السياسية، والمواقع الإباحية يتم وضعها فقط فى المواجهة لكسب تأييد المجتمع".

وقال "حجب المواقع الإباحية سيجعلنا ننفق أموالا طائلة والعائد لن يكون مجديا، بل الضرر الذى سيعود على الآخرين أكبر، فالحجب سيتسبب بشكل كبير فى بطء خدمة الإنترنت للمستفيدين الآخرين لاسيما مع تطور التجارة الإلكترونية وتنوع المنتجات التى تباع عبر وسائط الإنترنت، كما أنها ستؤثر بقوة على المحتوى الإلكترونى الذى تختلط فيه كافة العناصر وتترابط مع بعضها البعض".

إذا كنت تعيش في مصر، فقد تلاحظ بطئًا في الإنترنت مؤخًرًا، لا تكن قلقًا، فما حدث  هو ما أكد عليه "ناجي أنيس" في 2012، السلطات المصرية ناقشت السلطات حجب المواقع الإباحية، وحجبت المواقع الصحفية الحرة، بزعم دعم الإرهاب.

ووصل عدد المواقع المحجوبة نحو 23 موقعًا إليكترونيًا، منهم مواقع صحفية تابعة لقطر، لكن السلطات المجهولة التي حجبت المواقع استغلت الفرصة وحاولت حجب مواقع إلكترونية لا علاقة لها بأي تيار متطرف من قريب ولا من بعيد، ومنها جرائد رسمية ومرخصة للعمل داخل القاهرة.

ومن المواقع المحجوبة عن مصر:
  • مصر العربية
وهو الموقع الذي أتشرف بالكتابة من خلاله، ويعمل به 35 صحفيا نقابيًا، بالإضافة إلى الصحفيين الإلكترونيين، وحاصل على تراخيص من أربع جهات رسمية هي: وزارات الاتصالات والداخلية والثقافة، وهيئة الاستثمار.

كما أن من بين كتاب الموقع كُتابًا يحملون أفكارًا ليبرالية أو يسارية، وكُتابًا في ظني أنهم من أبناء نظام مبارك، ولا داعي لذكر أسماء، وعلى كل حال هذا لا يدل إلا على التنوع في الموقع واحترام جميع وجهات النظر، بالمناسبة كشف هذا الموقع في تحقيقات خاصة عن الانقسامات داخل جماعة الإخوان المسلمين بعد  30 يونيو، وهو ما جعل بعض قيادات الإخوان يتهمه بالعمالة لأجهزة الأمن، يحتل الموقع المرتبة رقم 24 في مصر و 1427 على مستوى العالم بين أكثر المواقع من حيث عدد الزيارات، ورئيس تحريره، الأستاذ عادل صبري، رئيس تحرير موقع جريدة الوفد سابقًا.

  • مدى مصر
أحد أهم المواقع الصحفية الاستقصائية في مصر، ورئيس تحرير الموقع، الصحفية "لينا عطا الله" وكانت سابقًا رئيس تحرير جريدة "إيجيبت إندبندنت" الصادرة عن جريدة المصري اليوم، وهذه المنصة الصحفية تعمل داخل مصر، ومسجلة في الهيئة المصرية للاستثمار، ويصف كثيرون موقع مدى مصر بأنه ليبرالي متحرر، كما أن أنشطته الثقافية لا تدل إلا على فكر يحارب التطرف والإرهاب.
  • البورصة
وهو موقع جريدة البورصة الاقتصادية الورقية، الصادرة في القاهرة والحاصلة على ترخيص بالعمل داخل مصر، والموقع يهتم بالأخبار الاقتصادية في الدرجة الأولى، ولعل هذا أحد أسباب حجبه.

  • ديلي نيوز ايجيبت
وهي جريدة صحفية تصدر باللغة الانجليزية، نشر فيها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مقالين باللغة الانجليزية، ويبدو أن الرئيس متهمًا بالإرهاب في حال اتهم هذا الموقع بنشر الإرهاب!

***
 الدستور المصري في مادته  70 نص على أن "حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني مكفولة، وللمصريين من أشخاص طبيعية أو اعتبارية، عامة أو خاصة، حق ملكية وإصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووسائط الإعلام الرقمى. وتصدر الصحف بمجرد الإخطار على النحو الذى ينظمه القانون. وينظم القانون إجراءات إنشاء وتملك محطات البث الإذاعي والمرئي والصحف الإلكترونية".

وفي المادة 71  "يحظر بأى وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها".

إلا أن الدستور ليس إلا حبرًا على ورق كما في كوريا الشمالية تمامًا، وإذا كان أحدهم لا يقبل بالاستشهاد بكوريا الشمالية؛ فإن الجهة السيادية المجهولة التي أمرت بالحجب استشهدت بكوريا الشمالية وتركيا، وإيران، والسعودية، وباكستان.

وقالت الجهة المجهولة أن هذه البلاد قد حجبت المواقع، لدواع أمنية ونحن نفعل مثلهم ولسنا أول الحاجبين.

بالمُنَاسَبَة؛ كل التكاليف الباهظة التي دفعتها السلطات المجهولة من أجل حجب مواقع صحفية في زمن نحن فيه "فقراء أوي" كأنها صرفت في الهواء. فأن تحجب موقعًا إليكترونيًا في عام 2017، ليس إلا خيال، وقد صدر 3 قرارات رسمية بحجب المواقع الإباحية، ولكن وزارة الاتصالات المصرية قالت في المرات الثلاث: "إن حجب تلك المواقع أمر صعب للغاية، إن لم يكن مستحيلًا".

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة