في ذكرى الدم

GETTY IMAGES

مصر العربية


لسماع المقال  اضغط هنا

في خطاب القوات المسلحة بعد تظاهرات 30 يونيه 2013، قال الجنرال عبدالفتاح السيسي: "لقد عانى هذا الشعب الكريم، ولم يجد من يرفق به أو يحنو عليه، وهو ما يلقي بعبئ أخلاقي ونفسي على القوات المسلحة التي تجد لزامًا عليها أن يتوقف الجميع عن أي شئ بخلاف احتضان هذا الشعب".

بالفعل قررت القوات المسحلة أن تحتضن الشعب وأن تحنو عليه، كما احتضنته في موقعة الجمل عندما قررت وقتها أن تكتفي بدور المشاهد _اللي ملوش دعوة بحاجة_  عندما تركت البلطجية تقتل 31 شهيدًا وتصيب أكثر من 2000 من المعتصمين في ميدان التحرير.

قررت القوات المسلحة أن تحنو على الشعب وأن ترفق به كما رفقت به فى أحداث ماسبيرو، وانتفاضة محمد محمود، ومجلس الوزارء، والعباسية، وستاد بورسعيد، ومسرح البالون، وغيرها من المجازر التى يحاولون طمسها من التاريخ.



قررت القوات المسلحة أن تحنو على الشعب (AFP)

فكانت الكارثة الإنسانية الكبرى "مجزرة رابعة العدوية" التي قالت عنها منظمة "هيومان رايتس ووتش" أنها من أكبر عمليات قتل المتظاهرين في يوم واحد بالتاريخ الحديث، وحمّلت المنظمة في تقريرها  كل من "عبد الفتاح السيسي، ومحمد إبراهيم" المسؤولية الكاملة عن التخطيط والتنفيذ للقتل الممنهج للمعتصمين، كما أشارت إلى أن المتظاهرين كان بينهم بضعة مسلحين لا يقتضي عددهم القليل كل هذا القتل وسفك الدماء والحرق واستهداف المستشفى الميداني ذاتها.


أضافت المنظمة أن قوات الشرطة قتلت في فض رابعة العدوية ما لا يقل عن 817 شخص وأن العدد ربما يزيد عن 1000 فى يوم واحد، بالإضافة لقتل نحو 78 شخصًا فى ميدان النهضة.

وكان الرد السريع من الحكومة المصرية أن منظمة "هيومان رايتس ووتش" منظمة إخوانية تدعم الإرهاب!

اشتدت الحرب الإعلامية على كل من تعاطف مع مجزرة رابعة وكل من أدان القتل الجماعي للمتظاهرين أو رفض فض الإعتصام بالقوة، فكانت أسهل عبارة ينطقها إعلاميو أمن الدولة (ده أصلا إخوان) حتى أن وسائل الإعلام وقتها اتهمت الدكتور محمد البرادعى بالأخونة؛ لأنه قدم استقالته من منصبه  الرسمي اعتراضًا على فض ميدان رابعة العدوية بتلك الوحشية والهمجية. كما وجدنا في وسائل إعلام النظام من يروج إشاعات عن انتشار جهاد النكاح بين المعتصمين، وانتشار أمراض الجرب.



تصوير: مصعب الشامي (GETTY IMAGES)

نقاط لا يمكن تجاهلها من كل الأطراف:

1- كانت هناك نية واضحة لسحق المتظاهرين في ميدان رابعة العدوية من دون تفرقة بين مسلح أو سلمي، ففى ميدان رابعة قُنصت الشهيدة "أسماء البلتاجي" بأيدي الداخلية وبرصاصة حية في الرأس، ولا يمكن القول بأنها رصاصة عشوائية، مما يعد أكبر دليل على أن القتل كان متعمدًا والتصفية الجسدية للموجودين كانت ومازالت هي الحل بالنسبة للنظام العسكري.
أما فى ميدان مصطفى محمود وفي نفس يوم الفض، أطلقت الشرطة النيران على المتظاهرين بنفس الهمجية، فلا يمكن نسيان الشهيد "أحمد المصري" عضو حركة شباب 6 ابريل الذي قرر أن يلتقط صورًا لنشر الحققيقة فما كان من الداخلية إلا أن أطلقت الرصاص الحي صوبه فاخترق الرصاص جسده من الخلف في أثناء فراره من المواجهات، ولا أرى لقتل أحد من يفرّون من الرصاص سببًا سوى نية القتل العمد.

2- كما أن القتل لم يفرق بين أحد؛ فالاعتقال أيضًا لم يفرق بين إخوان أو غيرهم، وخير مثال على العشوائية فى الاعتقالات التى وصلت إلى 1200 معتقل في يوم واحد بميداني رابعة والنهضة، المصور الصحفى محمود أبوزيد شوكان الذى أكمل خلف القضبان عامين بسبب تأديته واجبه الصحفي.



المصور الصحفي: محمود أبو زيد شوكان

3- لم تقتصر خسائر الوطن على القتل والإصابات والاعتقالات والقمع الممنهج فقط، ولكن للأسف أدى هذا الفض إلى فقدان الملايين من الناس ما تبقى من إنسانيتهم، فاختلطت أصوات الصراخ بالزغاريط المرحبة بفض الميدان وقتل من فيه، ووجدنا من يطالب بحرق من في الشوارع، فاستجابت لهم الشرطة وحرقت جثث المئات، كما وجدنا من يبرر القتل بدعوى أن هؤلاء الناس قد عطلوا المرور ولا يمكن لإنسان  بالغ عاقل أن يبرر إسالة الدماء من أجل تعطيل المرور أو من أجل المنظر الحضاري.
 من خسائرنا أيضًا التي لن تعالج ببساطة؛ أن جذور الفتنة قد تم زرعها بنجاح؛ فلا توجد عائلة واحدة؛ الآن؛ إلا وبينهم خلاف كبير بين مؤيدين ومعارضين قد وصل إلى مقاطعة الأطراف بعضها بعض.
 وفي جانب آخر من فقدان الانسانية، رأينا مجزرة "مركز كرداسة" التى راح ضحيتها 14 من قوات تأمين الشرطة بشكل وحشي، ورأينا الوحشية في أبشع صورها على هيئة أناس قد ابتهجوا لرؤية دماء ضباط قسم كرداسة، بدعوى الانتقام، فصرنا فى مجتمع يفتقد إنسانيته بشكل مريب، ويهدد الوطن بأكمله.

4- رغم أن القوات المسلجة بقيادة السيسى وقتها أكدت على أن الجيش لن يكون أبدا طرفًا في الصراع على السلطة، إلا أن الأحداث أكدت عكس ذلك، وصارت هناك حقيقة مطلقة لا يمكن تجاهلها، وهي أن العسكر لن يسمحوا بوصول المدنيين للحكم على الأقل فى الوقت الحالي، وأنه لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص، وأن السيسى لو كان فى مقدوره أن يلغي ما يسمى بالأحزاب والانتخابات لفعل.

5- الحرب لم تكن يومًا على الإرهاب؛ هذه أكذوبة، كانت حربًا واحدة ضد الثورة ومن أجل أن يحافظ جنرالات العسكر على بقائهم فى الحكم أطول فترة ممكنة، فما علاقة إصدار قانون التظاهر بالحرب على الإرهاب؟!
 الإرهاب لا يحتاج لقانون يمنع التظاهر، لأنه لا يعلم يعترف بالتظاهر أصلًا، إنه فقط يؤمن ويعترف بأن السبيل الوحيد هو السلاح والتفجيرات والدم؛ وأكذوبة محاربة الإرهاب تنتهي عندما نرى المشهد كاملًا ونعلم أن خلف القضبان رموز للثورة وشبابها، لم يكونوا يومًا مع العنف!

6- السلطة العسكرية هي العامل الأكبر فى صناعة الإرهاب منذ فض اعتصام رابعة العدوية، فإننا لو تحدثنا عن طفل قُتل والده، أو أخ أُعتقل شقيقه بشكل عشوائي، أو والد اختطفت الشرطة ابنته وتحرشوا بها في أقسام الشرطة، فهؤلاء جميعًا ليسوا إلا قنبلة موقوتة من الإرهاب صنعها النظام العسكري، ناهيك عن ممارسات وزارة الداخلية التي عادت لما قبل ثورة 25 يناير، والتي صارت هوايتها المفضلة البلطجة على خلق الله واختطاف الناس من الشوارع؛ ناهيك عن آلاف الطلبة المعتقلين والذين حكم عليهم بضياع مستقبلهم؛ فهؤلاء من الوارد جدًا أن يحاولوا الانتقام من الجميع بعد خروجهم؛ لأنهم بالطبع سيفشلوا في الحصول على حقوقهم بالقانون، في دولة لا قانون فيها سوى القمع، بالإضافة إلى وضعهم فى السجون فترة طويلة مع أصحاب الأفكار المتطرفة.

7- أدت أحداث فض رابعة العدوية إلى انقسام حاد بين كل القوى الثورية؛ والذى بدوره قد أدى إلى توهان الثورة أو قل اماتتها إكلينيكيًا، كما أننا رجعنا إلى عصور المباركية حيث لا معارضة سوى المعارضة الوهيمة، أما المعارضة الحقيقة فمصيرها الذبح إن فكرت في الثورة على الفساد. كما نلاحظ أنه ليس من السهل أبدًا أن تنظم  القوى الثورية مؤتمرًا جماهيريا  لطرح آرائها كسابق عهدها؛ لأنها تعلم جيدا أن النظام العسكرى  يتربص لهم، ولأن وقت الانتقام من كل من شارك فى إسقاط مبارك قد حان؛ والانتقام الأكبر سيكون ضد كل من هتف ضد حكم المجلس العسكرى بعد الثورة وعلى رأسهم شباب 6 إبريل والإشتراكيون الثوريون وشباب الألتراس وغيرهم من المستقلين، فهؤلاء لهم دور كبير فى فضح فساد السطلة العسكرية، وكان هذا واضحًا في أثناء تدشين حملة عسكر كاذبون بعد الثورة مباشرة.

8- أخيرًا.. ليس من الضرورى أبدًا أن يُتهم كل من تعاطف مع الدماء التى سالت فى فض رابعة العدوية بأنه إخوان، فالمسألة فقط تحتاج إلى قليل من الإنسانية، وأعتقد أن أهم درس يمكن أن نستفيده أننا جميعا فى دائرة واحدة، وأن من فرح فى الدماء يوما، ستصيبه لعنة الدماء.


اقرأ أيضًا:

أردوغان: الخليفة العلماني والديكتاتور الديمقراطي


شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة