كاريكاتير (الاشتراكيون الثوريون) |
وَبّخني أحد من يرتدون رابطة عنق، ويوزعون صكوك الوطنية على من يتفقون معهم فقط فى التطبيل للنظام الحالي، اعتقادًا منه أن الوطنية هي الموافقة على كل ما يفعله النظام الحاكم للبلاد مهما كثرت جرائمه ومهما بلغت حماقته.
اتهمني واتهم كل أبناء جيلي بأننا لا نحب الوطن لأننا لم نشارك فى مسرحية الانتخابات، فالرجل ظنّ نفسه يمتلك صكوك الوطنية، كهؤلاء الذين اعتقدوا أنهم يملكون صكوك الغفران من المتاجرين بالدين، وسألني عن سبب وحيد لمقاطعة مسرحية الانتخابات، فلم أرد، ليس عجزًا مني، ولكن لسببين..
الأول: أنني لا أحب الجدال والهرتلة الفارغة.
والثاني: أنني أحتاج إلى كتاب بين دفتيه مئات الأوراق حتى أوضح له بعض ما يعاني منه أبناء جيلي وبعض أسباب عدم المشاركة في المسرحية.
في النهاية قررت أن أرد عليه هنا، وأعلم أن الرسالة ستصل له ولمن هم مثله.
لن أكتب عن الجهل، والفقر، والاعتقال، والتعذيب، والإخفاء القسري، والفشل، والفساد، والصحة، والثورة المضادة، وإعلام صوت الرأى الواحد، والقضاء، والنيابة، والفلول، والعسكر، و.....
ولكني سأكتب بعفوية عن بعض رفاقي:
1- جابر
في كل أفعاله دلالة على عشق الوطن، هذا الفتى ذو الـ 17 عامًا، احتفى بفوز مرسي رغم عدم اقتناعه به، ولكنه كان يخشى على الوطن من شفيق، وعندما فقد الأمل فى عودة حق رفاقه الشهداء وبعدما سمع تصريحات من نوعية "نرفض لفظ تطهير وزارة الداخلية"، قرر العودة للشارع من جديد فى ذكرى محمد محمود الثانية بهتافه وليس بالمولوتوف كما ادعى بعض المتطرفين ممن يختصرون الوطن والدين فى شخص واحد.
ومما كتبه على صفحته "نازل عشان أعز صاحب ليا اللي شيلته بإيدي وهو مقتول، أسامة أحمد، نازل عشان عيون أحمد حرارة، نازل عشان أرجع الثورة اللي راح عشانها آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من المصابين، نازل عشان حمّو طه وأحمد يوسف صحابي اللي راحوا في بورسعيد، نازل عشان بلدي ترجع لنا تاني، لو مرجعتش مليش غير طلب واحد هو إن الناس تكمل الثورة وتجيب حقنا"
ثم ختم كلامه بالشهادة، ولكن المرضى لم يرحموه حتى بعد موته وشتموه بأفظع الشتائم، لأنه خالفهم الرأى.
جابر كان يشعر أنه سيترك أرض النفاق، حكت لي أمّه أنه قبل نزوله الشارع قد حلق شعره لأنها كانت لا تحب شعره الطويل، ثم طبع على رأسها قبلة وقال لها أنه حلق شعره من أجلها، ثم أنهت الشرطة حياته بـ 7 رصاصات خرطوش فى قاع المخ.
بعد موته ظهرت نتيجته فى الثانوية العامة وكان من الحاصلين على تقدير ممتاز.
2- أحمد المصري
كنت أظنه سيموت فى حادثة سيارة وسأموت معه فى نفس اللحظة، لأنه دائمًا يقود بسرعة جنونية، كان يقضي الكثير من أوقاته فى الأعمال الخيرية.
دائمًا يتصل بي ويقول: "هيا نذهب إلى دار أيتام، هل ستشارك فى القافلة الطبية؟ اجمع ملابسك القديمة ونظفها جيدًا، سنعطيها للفقراء، لا تنسى أننا سنشارك في عمل مائدة إفطار على روح الشهداء".
لن أنسى أنه يومًا دافع عن جابر بعدما اعترض أحدهم على أن جابر يرسم جرافيتي للشهداء، سأل المصري هذا المعترض.. هل يعجبك شكل الحائط وهو متسخ؟ وما الذي يزعجك من صورة شهيد؟!
المصرى وجابر لم يكونا أصدقاء، ولكن بينهما رابط يدعى عشق الوطن، بينهما عيش وثورة! حكى لي المصري يومًا أنه يود السفر من أجل أن يضمن لأولاده حياة كريمة، ولكن الداخلية لم تتركه ليكمل حياته واخترق رصاصها جسده فى 14 أغسطس 2013 أثناء ذهابه لعمله، أطلق مُدعي الدفاع عن الوطن الرصاص على أحد عاشقي الوطن، أطلقوا عليه الرصاص من الخلف، رقد المصري فى المستشفى 18 يومًا أجرى خلالهم عمليتين جراحيتين، قال الأطباء وقتها أن العمليتان قد تمتان بنجاح، ولكن المصري أبلغ أمه وقتها أنه يرى جابر جيكا، كان جابر ينتظره فى السماء، كانا يعلمان أكثر من الأطباء. قتل المصري على يد من قتل جابر.
3- رامى السيد
أحد المقربين لـ "أحمد المصري" حكم عليه محمد ناجي شحاتة هو و9 من رفاق المصري بالمؤبد، ربما تظن أنهم حاولوا الانتقام لرفيقهم ومارسوا العنف ضد النظام، ولكن رامي ورفاقه كانوا يؤدون واجب العزاء فى الذكرى السنوية لاستشهاد أحمد المصري، فاعتقلتهم الداخلية ولفقت لهم التهم المعتادة.. التظاهر، التجمهر، قطع الطريق، حيازة شماريخ.
وياللعجب صدق القاضي أنه يمكن لأحدهم أن يذهب إلى عزاء وفى حوزته شماريخ، ويا للغرابة عندما تكون الشماريخ عقابها المؤبد.. كان الله فى عون رامي ورفاقه الذي سُتعاد إجراءات محاكمتهم أمام نفس القاضي "محمد ناجى شحاتة".
4- هشام رزق
اليساري الصغير، المتواضع، الفنان التشكيلي، رسام الجرافيتي، هو أيضًا من أصدقاء المصري، ومن أصدقاء جابر، قلت له يومًا هيّا نرسم "المصري" على جدران شارع محمد محمود، وكان يعلم أنني فى فترة انعزال عن كل شئ فى الحياة، وأن موت المصري كاد أن يؤدي إلى موتي، اتصل بي واتفقنا على ميعاد الرسم، وكانت المفاجأة أنه قد انتهى من الرسم وقرر أن يرسم على وجهي بسمة بتلك المفاجأة.
كان هشام يحب المفاجئات، فقرر أن يزورنى أثناء فترة اعتقالي، زارني مرتين، ولم يتمكن من زيارتي فى الثالثة، علمت أنه اختفى عشرة أيام، ومات فى ظروف غامضة، مات وأنا فى المعتقل، دون أن أحمله على كتفي وهو يودع عالمنا القمئ إلى مثواه الأخير.
5- خالد الرشيدى
جائنى خالد مع هشام فى إحدى الزيارات، خالد الذي تعرفت عليه يوم جمعة الغضب، والذي كتب فى يومياته خلال تأدية فترة تجنيده أنه يعشق تراب هذا الوطن، وأنه يشعر أنه سيموت من أجله، لا يدري متى ولا كيف؟!
كان على وشك تحقيق حلمه، أخيرًا سيشتري الشبكة ويتزوج من الفتاة التى أحبها، ولكن الداخلية وقتها اقتحمت منطقة "ناهيا" التي يسكن فيها خالد، وأطلقت الرصاص بشكل عشوائي وقتلته برصاصها، وقتلت حلمه الصغير، فهي تدمن قتل الأحلام، وتعشق تدمير المستقبل. قتلته وادعت أن الإخوان هم من قتلوه، فالإخوان شماعة لكل جريمة يرتكبها النظام، ولكل فشل يقع فيه، لم أحضر جنازة خالد، كما لما أحضر جنازة هشام، صليت عليهما في زنزانتي، ودعوت لهما، ودعوت على من قتلهما، هناك شئ ما يطاردني يجعلني لا أستطيع النظر فى عيون أقاربهما.
6- شوكان
لم نلتق وجهًا لوجه، لم نلتق سوى فى صور جمعت بيننا على سلم نقابة الصحفيين، وفي هتاف هتفه زملائنا الذين طالبوا بالحرية لنا، صرنا أصدقاء دون لقاء.
محمود أبو زيد شوكان، مصور صفحي، حٌرم من التصوير، ومن الحرية، ومن أهله أكثر من 800 يومًا، لم يُقدم للمحاكمة إلى الآن، وحتى لو قدموه للمحاكمة فعلى أى جريمة سيحاكموه؟! على نقل الحقيقة؟!
فى إحدى المؤتمرات بنقابة الصحفيين، والتي كانت تطالب بالإفراج عن شوكان وعن عشرات الصحفيين أخبرني زملائي أنني سألقى رسالته، وأنني لن أطّلع على الرسالة إلا وقت إلقائها، أوجعتني رسالته، وانتفض جسدي عندما ذكر اسمي فى الرسالة قائلًا: "إلى الرفيق أحمد جمال زيادة، وإلى المصورين الصحفيين: تمسّكوا بحلمي، حاربوا لأجل الصورة، ولا تتركوا الكاميرا، مهما كلفكم الأمر. صوّروا لأجلي".. ربما يتساءل أحدهم ما الخطر الذي يسببه "شوكان" لهم؟! ولكني أعتقد أن الخطر كل الخطر في الحقيقة التي كان يسعى نقلها لنا، فالحقيقة فى زمن يحكمنا فيها كذابون تعد جريمة.
7- محمود محمد
هذا الفتى الذي يشعرني بالخجل لأنني يومًا سئمت حياة المعتقلات، يبلغ من العمر 17 عامًا، اقترب على إكمال عامين خلف الجدران، وُضع فى أسوأ سجون مصر "سجن الاستئناف" الذي تطبق فيه وزارة الداخلية أحكام الإعدام، قُبض عليه لأنه يحب الوطن فحلم به بلا تعذيب، وترجم حلمه على قميصه وكتب عليه "وطن بلا تعذيب" فاعتقلوه، وهنا علينا أن نتساءل: من يحب الوطن أكثر؟ من اُعتقل لأنه ضد التعذيب؟ أم من يعتبر أن التعذيب هوايته المفضلة؟!
هذا الفتى الذي إذا أحب شخصًا عبّر عن حبه بورقة يرسلها له ويزخرف فيها بخط يده كلمات صغيرة لها معاني كبيرة "بكره بتاعنا، وطن بلا تعذيب، حرية".. هذا الفتى متهم بحيازة حلم وعقل.
8 - ياسين صبري
كنا معًا خلف جدران زنزانة واحدة، اقتسمنا القهوة، وتحدثنا عن الثورة والحب والتاريخ، كان يقرأ ما أكتبه وأقرأ أنا ما يكتبه، كنا نغني فى الحزن قبل الفرح، ولكننا افترقنا دون قصد، أطلقوا سراحي وحكموا عليه بالسجن 5 سنوات ثم 3 سنوات و4 مراقبة، اُعتقل وفي حوزته "ستيكر" مكتوب عليه "ثوار"، فالانتماء للثورة تهمة، كما أن الحلم والعقل تهمة.
أثناء فترة اعتقاله، اُعتقل شقيقه الصغير "عبود صبري" ذو الـ 17 عامًا، ولكن لم يخبر أحد "ياسين" أن شقيقه قد اُعتقل، أخبرته أمه بالأمر عندما أخلت النيابة سبيل "عبود" على ذمة القضية، فضحك وقتها وهو يحدثني عما حدث لأخيه دون علمه، وقال: الحمد لله أنهم لم يخبروني وإلا كنت سأقضي فترة عقوبتي فى جحيم.
ولكن انتهى الأمر بالحكم على "عبود" بالسجن، ونظرًا لأن الداخلية اقتحمت منزلهم مرات عدة، قرر عبود أن يسلّم نفسه حتى يرحم أمه وأبيه من الإهانة.
كتب شقيقه أحمد صبري على صفحته "بدلًا من أن أذهب مع أخي إلى البحر لنستنشق هواءه، ذهبت معه ليسلم نفسه للشرطة".