باسم يوسف |
لسماع المقال اضغط هنا
تعد السخرية السياسية بجميع أشكالها أسلوبًا من أساليب التغلب على الصعوبات التي تواجهها الشعوب نتيجة السياسات القمعية التي ينتهجها الحكام على مر العصور.
كما أن أكثر الرؤساء والزعماء تعرضًا للسخرية هم الذين ظنوا أنفسهم ملوكًا لا يجب أن يحاسبهم أحد، فلاسفة يفهمون كل شيء، عباقرة يملكون الحلول السريعة، أقوياء قادرون على محاربة العالم كله، ولكنهم فى النهاية يقودون البلاد إلى مزيد من الفقر والجهل والغلاء وقمع الحريات ثم يعلنون للعامة أن كل شيء على ما يرام. وعندما تكتشف الشعوب أن كل شيء ليس على ما يرام يبدأون فى وصلات التهكم والسخرية ضد حكامهم.
أما شعب مصر فدائمًا ما يقابل القمع والظلم والغباء بالنكات والسخرية والتهكم، حتى إننا لو رجعنا إلى عصور ما قبل التاريخ سنجد أن هناك برديات فرعونية رسمها المصريون القدماء منها "سفينة يقودها حمار"، وهو أسلوب تهكمي شديد للاعتراض على نظام سياسي غبي، سنجد أيضًا عربة يقودها فأر للدلالة على أن هذا الفأر جبان لا يملك الشجاعة للمواجهة.
كما أن بعض كتب التاريخ قد ذكرت لنا أن المصريين قد أطلقوا على بطليموس الثامن لقب "فسكون physkon" بمعنى البدين، لأنه كان مفرطًا في الطعام وفي معاشرة النساء، حتى صار جسده كجسد الفيل، بالإضافة إلى أنه لم يكن مهتمًا بأمور شعبه، وظل لقب الفسكون ملتصقًا به من عام 169 قبل الميلاد إلى وقتنا الحالي، وسيظل ملتصقًا به إلى الأبد. فسخرية شعبه لن ترحمه حتى في قبره.
تزداد سخرية الشعوب من حكامها حسب تلك الدرجة التي وصل لها الحاكم من ظلم الناس وسرقتهم وقمعهم، فإذا وصل الحاكم درجة عالية من إخراس الناس ووضع القوانين التى تحجمهم، وإذا وصل الكذب مداه، تصل سخرية الشعوب مداها حتى تصل إلى التهكم والإهانة للحاكم.
يقول الأديب شوقي ضيف في كتابه "الفكاهة في مصر" إن "السخرية أرقى أنواع الفكاهة لما تحتاجه من ذكاء وخفاء ومكر، تستخدم للنكاية بالخصوم، فتكون لذعًا خالصًا، وقد تستخدم في رقة، وحينئذ تكون تهكمًا وذلك لأن اللذع والتهكم لونان من ألوان السخرية".
لماذا يخشى المستبدون السخرية؟
1- أكثر الأفكار حماقة وغباء هي تلك الأفكار التي تحتاج فى حمايتها إلى استعمال القوة واعتقال الناس خوفًا من سخريتهم، فالسخرية أسلوب ذكي يستخدم في إيضاح كذب مسؤول ما، أو حتى فى تنبيه مجتمع ما إلى أن عاداته غبية حد الضحك.
2- السخرية لا تعترف بقداسة الأشخاص، وتكسر هيبتهم مهما بلغت عظمة بنادقهم، وعندما تسقط هيبة الحكام أمام شعوبهم تتعرض عروشهم للانهيار.
3- كما أن السخرية تنتشر سريعًا بين عامة الناس أكثر من انتشار بحث علمي أو مقال معارض، فالسخرية في انتشارها السريع قادرة على أن تجعل الناس يفكرون فى عيوب المستبد، وهذا بالطبع مكروه لدى الحاكم المستبد، فالمستبد يتمنى أن تظل رعيته كالغنم يقودها كما شاء، لا كما شاءوا.
4- المستبدون يعتمدون في حكمهم على إماتة الناس من الرعب، ولكن عندما تتجرأ الشعوب على السخرية من حكامهم، فهذا معناه أن الخوف لم يتمكن بشكل كبير من قلوب هؤلاء الذين يسخرون من حكامهم، وهو ما يهدد ديكتاتورية المستبد التي شُيدت في الأصل على خوف الناس.
5- السخرية نوع من حرية الرأي، ولا حرية رأي فى دولة يحكمها مستبد، وبناء على ذلك السخرية من الحاكم ممنوعة.
***
عندما تُغلق كل أبواب التعبير في أن تقول وجهة نظرك، تلجأ إلى السخرية، حتى إنك تسخر من أن كل شيء صار ممنوعًا، وربما تسخر من الحكومات والشعوب والسياسيين كما سخر عمنا الراحل جلال عامر رحمه من كل هؤلاء قائلًا: "لا أحد في مصر يستحق أن نحمله فوق الأعناق سوى "أنبوبة البوتاجاز".. تلك المقولة التي تنفي وجود زعيم فى تلك البلد.
*عمرو نوهان هو أحد الشباب الغاضبين مما يجري فى البلاد من اعتقالات وإخفاء قسري وتعذيب وغلاء أسعار، سخر من عبدالفتاح السيسي بطريقته (التي ربما تراها خاطئة أو قلة أدب) ووضع صورته على هيئة ميكي ماوس، للإشارة إلى أن خطاب السيسي كان مضحكًا، ونشرها على حسابه بموقع فيس بوك، فحُوكم الفتى عسكريًا لإهانة رمز من رموز الدولة، وقرر القضاء العسكري حبسه ثلاثة أعوام.
في الحقيقة لا أعلم كيف يتفرغ قضاؤنا العسكري لمحاكمة أشخاص ينشرون صورًا على مواقع التواصل الاجتماعي، ويترك ذلك الإرهاب الذي يضرب البلاد فى سيناء؟! الحكومة الحالية تحاول إيقاف السخرية واستبدالها بالإرهاب، اعتقلنا أحد الساخرين في السجون العسكرية، ليتحول إلى أحد الإرهابيين بعدما يقضي فيها 3 سنوات!
أعتقد أنه على السلطة الحالية أن تكف عن محاولة قمع السخرية بالاعتقال لأن السخرية لا يمكن أن تنتهي حتى فى المعتقلات.. السخرية منكم لن تنتهي بالاعتقال، ولكنها تنتهي بالعدل.