مصر العربية
كنت سأكتب عن هذا الذي كان متحدثًا باسم الجنرالات وحاول أن يصير إعلاميًا ولم ينجح، ويحاول أن يصير كاتبًا ولن ينجح، لشعوري بالغضب بعد أن وصف أبناء الوطن الفقراء بـ "الرعاع"، تراجعت لأسباب ثلاثة.
الأول: أنني لن أضيع وقت القارئ في مقال طويل عريض لأنتقد فيه عسكري يظن نفسه كاتبً، ملخص ما كتبه حتى الآن يمكن كتابته في سطر واحد "نزار قباني جميل، الضربة القاضية جميلة، الصالونات الثقافية جميلة، البلاد العربية جميلة، الإرهاب ليس جميل، الشعب رعاع".
الثاني: أن الرجل أنهى ما أسمته جريدة اليوم السابع مقالًا بمقولة أعجبتني جدًا: "أعرض عن الجاهل السفيه.. فكل ما قال فهو فيه"، وها أنا أعرض.
الثالث: أننا نمر الآن بذكرى رحيل الشاعر العظيم "أمل دنقل" الذي انحاز للحق، والعدل، والفقراء، وقد قال "أمل" فيما قال:
"ها أنا فى ساعة الطعان..
ساعة أن تخاذل الكماةُ.. والرماةُ.. والفرسان
دُعيتُ للميدان!
أنا الذي ما ذقت لحم الضان..
أنا الذي لا حول لي أو شان..
أنا الذي أقصيتُ عن مجالس الفتيان أدعى إلى الموت..
ولم أدع إلى المجالسة!"
***
قلت لصديقي:- في ذكرى وفاة "أمل" لم أر أحدًا يذكره غيرك؛ ارفع السلاح واتبعني!
سألني:- هذا شئ جيد أم سيئ؟
= إنه في غاية السوء، عندما تتحول ذكرى وفاة "أمل دنقل" إلى حديث وسائل التواصل الاجتماعي، سنتقدم جدً.
- كانت كلمات "دنقل" حادة مثل شخصيته، لذا يتناسى البعض ذكراه، كما أن الأنظمة تكره "أمل" فهيا نكتب عنه أنا وأنت.
وها أنا أكتب؛ وإذ سألتيني/ سألتني"لم علينا أن نكتب عن أمل وأن نحول ذكراه إلى حديثنا الدائم؟" سأجيب
ببساطة؛ لأنه هو الذي قال:
"ربما ننفق كل العمر كي نثقب ثغرة..
ليمر النور للأجيال مرة"
***
"أمل دنقل" لمن لا يعرفه، شاعر مصري يساري، اسمه "محمد أمل فهيم أبو القاسم محارب دنقل" وُلد في قرية القلعة بمحافظة قنا في صعيد مصر عام 1940، لأسرة صعيدية متوسطة الحال، والده كان عالمًا من علماء الأزهر الشريف، وسُمي "أمل دنقل" بهذا الاسم لأنه وُلد في نفس العام الذي حصل فيه أبيه على إجازة العالمية، فأطلق عليه "محمد أمل" تبركًا بالإجازة التي حصل عليها من جامعة الأزهر والتي تعادل شهادة الدكتوراه الأستاذية.
تأثر أمل بوالده وكتب الشعر بسببه، ورحل أبيه وهو في العاشرة من عمره، وكان لرحيله كبير الأثر على غالبية أشعاره.
أنهى دنقل دراسته الثانوية في قنا وفي القاهرة، التحق بكلية الآداب؛ ولأن حياة المصريين قاسية في كل زمان وفي كل عهد بسبب فساد حكامها الذين ينظرون لشعوبهم على أنهم "رعاع" انقطع عن الدراسة منذ العام الأول كي يعمل موظفًا بمحكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية، ثم بعد ذلك موظفا في منظمة التضامن الأفروآسيوي، ولكنه كان دائما يترك العمل وينصرف إلى كتابة الشعر.
عاصر "دنقل" نكسة 1976، وقد كتب فيها رائعته الشهيرة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" وجاء فيها:
"أيتها العرافةُ المقدسة..
جئتُ إليكِ.. مُثخنًا بالطعناتِ والدماء
أزحفُ في معاطفِ القتلى، وفوقَ الجُثَثِ المكدسة
منكسرَ السيف، مغبر الجبين والأعضاء.
أسأل يا زرقاء..
عن فمكِ الياقوت، عن نبوءة العذراء.
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكًا بالراية المنكسة
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء
عن جاري الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء
فيثقب الرصاصُ رأسه.. في لحظة الملامسة!
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء!
أسأل يا زرقاء..
عن وقفتي العزلاء بين السيف.. والجدار!
عن صرخة المرأة بين السبي.. والفرار؟
كيف حملتُ العار..
ثم مشيتُ؟ دون أن أقتل نفسي؟! دون أن أنها؟!
ودون أن يسقط لحمي.. من غبار التربة المدنَّسة؟!
تكلمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي.. بالله.. باللعنة.. بالشيطان
لا تغمضي عينيك فالجرذان..
تلعق من دمي حساءَها.. ولا أردُّها!
تكلمي.. لشدَّ ما أنا مهان
لا الليل يُخفي عورتي.. ولا الجدران!
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها..
ولا احتمائي في سحائب الدخان!"
لم يكن أمل مجرد شاعر، كان معارضًا حادًا، كان حادًا مثلما كانت قصائده، صريحًا، وقد عارض العديد من قرارات الرئيس محمد أنور السادات، لا سيما معاهدة كامب ديفيد "السلام" مع الاحتلال الصهيوني، وفي هذا كتب كلماته ما زالت تصلح حتى الآن:
"لا تصالح على الدم .. حتى بدم!
لا تصالح ! ولو قيل رأس برأس
أكل الرؤوس سواء ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك ؟!
أعيناه عينا أخيك ؟!
وهل تتساوى يد .. سيفها كان لك
بيد سيفها أثكلك ؟
سيقولون :
جئناك كي تحقن الدم ..
جئناك . كن - يا أمير - الحكم
سيقولون :
ها نحن أبناء عم.
قل لهم : إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيف في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
إنني كنت لك
فارسا،
وأخا،
وأبا،
وملك!"
في انتفاضة الخبز، يناير 1977، التي أطلق عليها السادات "ثورة الحرامية، كان دنقل قد سجل حضوره بقصيدة صريحة رائعة كتب فيها:
"أيها الواقفون على حافة المذبحة..
أَشهِروا الأسلحة!
سقط الموت،
وانفرط القلب كالمسبحة..
والدم انساب فوق الوشاح!
المنازل أضرحة،
والزنازن أضرحة،
والمدى .. أضرحة..
فارفعوا الأسلحة .. واتبعوني!
أنا ندم الغد والبارحة
رايتي: عظمتان.. وجمجمة.
وشعاري: الصباح!"
كانت شخصية "أمل" صريحة، لا يتردد في أن يقول ما يريد حتى لو كان جارحًا، ففي حوار له نشر في مجلة "إبداع" قبل وفاته بشهور، قال معلقًا على ظهور المطرب الشعبي أحمد عدوية "قد يكون انحطاطًا للأغنية المصرية، لكنه خير معبّر عن الفترة التي ظهر فيها، بمعنى أن هذا الصوت الذي ليس صوت رجل أو أنثى، هو تعبير حقيقي عن العصر الذي كنا نعيش فيه، فنحن لم نستطع أن نكون فيه رجالا ولا أن نكون فيه نساء، لم نستطع أن نكون إيجابيين، ولا أن نكون سلبيين، إنما نحن نعيش كما يرسم لنا".
ولا أدري ماذا كان رد فعل "أمل" لو سمع المجاري الصاخبة التي ضربت ربوع مصر، ولكني أعلم أنه كان سيقول أيضًا "ما زلنا نعيش كما يرسم لنا".
أصيب أمل بالسرطان قبل وفاته بنحو 4 أعوام، وكانت تجربة مريرة ومؤلمة، وخلالها لم يترك القلم، وترك لنا كتابات أسماها "أوراق الغرفة 8" وهي غرفته داخل معهد الأورام.
ومن ضمن ما كتبه حينها:
"فاشهد لنا يا قلم
أننا لن ننمْ
أننا لن نقف بين " لا " و " نعم "
ما أقل الحروف التي يتألف منها اسم ما ضاع من وطن"
وقد شهد القلم يا أمل، أنك لم تفقد الأمل يومًا في هذا الوطن، وأنك تركت الوطن محبًا مخلصًا له في 21 مايو 1983.