الأرض قبل العرض.. ولكنها ليست قبل الحرية







«دربت قاصرات الوطن على آلام الاغتصاب وضرورة التمسك بلعبهن، بحصّالات نقودهن، بثياب الموتى من حولهن، وألّا يأخذن أبدًا بالشعار الذي أطلقته إسرائيل عام 1948: “العرض قبل الأرض” لأن الأرض قبل العرض والطول، قبل بيارات البرتقال وبساتين الليمون، قبل زرقة البحر وغناء الصيادين ومواويل الفلاحين، قبل الزراعة والصناعة والفن والعلم والمعرفة واليمين واليسار، والماضي والحاضر والمستقبل، ولكنها ليست قبل الحرية». - محمد الماغوط


كلمات كأنها قد كتبت من أجل الأرض المصرية «تيران وصنافير»، وتؤكد أننا بعد أن فقدنا حريتنا قد نفقد كل الأشياء الثمينة، بما فيها الأراضي التي سالت من أجلها دماء أجدادنا، فالأرض قبل العرض وقبل الحياة ذاتها، ولكنها ليست قبل الحرية.


قديمًا: مستعدون للحرب.. وحديثًا مستعدون للبيع

 كانت الجزيرتان أحد قواعد تمركز القوات المصرية في فترة "العدوان الثلاثي" عام 1956 على مصر (GETTY IMAGES)



"خليج العقبة واقع في مياهنا الإقليمية المصرية وتحت أي ظرف لن نسمح للعَلَم الإسرائيلي بالمرور عبر الخليج، واليهود يهددون بالحرب، ونحن نقول لهم: أهلًا وسهلًا، نحن مستعدون للحرب، وهذه المياه من حقنا".
هذا جزء من خطاب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وكان يوجهه لإسرائيل تحديدًا، وسواء كانت أفكاره تعجبك أم لا؛ إلا أنه كان عدو إسرائيل الأول، وكان عنيدًا لا يمكنه التنازل عن شبر واحد لصالح العدو.
علق المحلل اﻹسرائيلي “هيرب كينون” على كلمات “ناصر” في مقال نشره بصحيفة “جيروزاليم بوست” العبرية قائلًا “وبسرعة إلى الأمام 49 عاما حتى نصل إلى 9 أبريل 2016، وعقب اجتماع بين الرئيس عبد الفتاح السيسي، والملك سلمان بن عبد العزيز في قصر عابدين بالقاهرة، وعكس كلمات عبد الناصر، الماء لم يعد للمصريين؛ وإذا وافق البرلمان المصري على هذا الاتفاق، وهو مجرد إجراء شكلي، فإن السيطرة على الجزر التي تقف كحارس على الممر المائي في البحر الأحمر، والمدخل لمدينة إيلات -على الأقل رسميًا- سوف تكون تحت سيطرة السعودية”.
فخلال 49 عامًا، لم يتمكن أحد الساسة في دولة الاحتلال الإسرائيلي أن يسخر من كلام “ناصر” عن الأرض والمياه، إلا في عام 2016، في خلال حكم عبد الفتاح السيسي بعدما تنازل عن الأرض لصالح السعودية!


لا تسيئوا لأنفسكم، ودعونا نتفاوض مع إسرائيل!

تيران وصنافير (AFP)



“من فضلكم أرجوا إن الموضوع ده منتكلمش فيه تاني، أرجو إن احنا منتكلمش فيه تاني، أنتم تسيئون لأنفسكم”.

هكذا قال الرئيس عبد الفتاح السيسي لمن اعترض على بيع الجزيرتين، فلا يحق لأبناء الوطن الاعتراض على بيع جزء منه، وهم يسيئون إلى أنفسهم إذا تكلموا أو عارضوه! أما أعداء الوطن لو تكلموا أو تفاوضوا فهذه مسألة أخرى!
فهناك لقاءات في الخفاء والعلن قد حدثت بين نظامي مصر والاحتلال الإسرائيلي، ولعل التسريبات التي بثتها قناة تلفزيونية محسوبة على جماعة الإخوان المسلمين في فبراير 2017، واحتوت على مكالمة بين وزير الخارجية المصري سامح شكري والمحامي الشخصي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تكشف لنا تنسيقا بين الطرفين المصري والاحتلال، بشأن جزيرتي تيران وصنافير، ووفق التسريب، يقول شكري “إن مصر وافقت على مقترح المحامي الإسرائيلي بأن القاهرة لن توافق على أي تعديل على الاتفاقية دون الموافقة المسبقة لحكومة إسرائيل”.
ويقول شكري “إن النظام في مصر سيواصل كافة الإجراءات لتنفيذ اتفاقية ترسيم الحدود بغض النظر عن قرار القضاء المصري بهذا الشأن”.
ولم تنف الحكومة ما جاء في التسريبات، كما أن هناك تصريحات لقيادات داخل دولة الاحتلال تؤكد صحة محتوى التسريبات. ففي تصريحات لوزير الحرب الإسرائيلي موشيه يعالون في إبريل 2016 قال “إن اتفاق نقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير من مصر إلى السعودية جاء من خلال اتفاق رباعي بين المصريين والسعوديين وإسرائيل والولايات المتحدة”. وإنه “تم إبلاغ إسرائيل مسبقًا بالاتفاق للحصول على موافقتنا”.
ولم تنف الحكومة ما قاله يعالون أيضًا، ما يدعونا لتصديق التسريبات حتى يثبت العكس!


السيادة للشعب وليست للرئيس


“يعاقب بالإعدام كل من ارتكب عمدا فعلًا يؤدي للمساس باستقلال مصر أو وحدتها أو سلامة أراضيها”- المادة 77 من قانون العقوبات المصري


هكذا يقول القانون، وهكذا يقول العقل، والمنطق، ومجلس الدولة، فقد جاء في تقرير مفوضي الدولة عن “مصرية تيران وصنافير” أن اتفاقية تعيين الحدود مع السعودية مخالفة للدستور، وأنها والعدم سواء، وأنها باطلة بطلانًا مطلقًا.
وجاء في التقرير أنه “حسب الدستور “السيادة للشعب وحده” يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات؛ وذكر التقرير أن المادة 86 تنص على أن الدفاع عن الوطن وحماية أرضه شرف وواجب مقدس؛ وأن المادة 144 تنص على أن يقسم رئيس الجمهورية قبل أن يتولى مهام منصبه أمام مجلس النواب بأن يحترم الدستور والقانون وأن يحافظ على استقلال الوطن ووحدة وسلامة أراضيه.
وجاء في التقرير “يمثل رئيس الجمهورية الدولة في علاقاتها الخارجية ويبرم المعاهدات ويصدق عليها بعد موافقة مجلس النواب، ويجب دعوة الناخبين للاستفتاء على معاهدات الصلح والتحالف وما يتعلق بحقوق السيادة، ولا يتم التصديق عليها إلا بعد إعلان نتيجة الاستفتاء بالموافقة، وفي جميع الأحوال لا يجوز إبرام أية معاهدة تخالف أحكام الدستور أو يترتب عليها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة”.
وأضاف التقرير ” مصر خاضت حروبًا عليها (الجزيرتين) فضلًا عن أنها وقعت اتفاقية سلام أفصحت إفصاحًا جهيرًا بمصرية الجزيرتين، وأضافت أن تيران وصنافير سبق احتلالهما من قبل إسرائيل في 1956 و 1967، وأنه حتى تاريخ تحريرهما لم تهب أي دولة للدفاع عنهما سوى مصر، صاحبة السيادة التاريخية الحقيقية على الجزيرتين ولم يثبت اعتراض المملكة العربية على ذلك طيلة تلك السنوات.


حكم تاريخي بمصرية الأرض، ومحاولات حكومية بائسة لإثبات العكس


في 16 يناير 2017، أصدرت المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة حكمًا تاريخيًا بمصرية تيران وصنافير، وجاء في حيثياتها أن “تيران وصنافير ضمن الإقليم المصرى، خاضعتان للسيادة المصرية الكاملة، ووفقًا لنص المادة 151من دستور جمهورية مصر العربية الصادر فى 18 يناير 2014 ، يحظر إبرام أي اتفاق يتضمن التنازل عن أى جزء من الإقليم المصرى”
وأكدت الحيثيات على أنه لا يحق للرئيس التنازل عن الأرض إلا بعد استفتاء الشعب بحسب ما نص عليه الدستور!
وقالت “إنه لا يُقبل التنازل عن أى جزء من الأرض أو مخالفة أي حكم من أحكام الدستور الذى يمثل الوعاء الأصيل للنظام القانونى الحاكم من ناحية والضمان الوحيد لاستقرار نظام الحكم من ناحية أخرى”.
أما النظام المصري فكان يسعى جاهدًا بائسًا لمقاومة الأحكام التاريخية، وحصل على حكم من محكمة الأمور المستعجلة بسعودية الجزيرتين وجاء في حيثيات حكمها عكس ما جاء في حيثيات الإدارية العليا وقالت “أن سيادة الدولة تعلو على كافة السلطات بها وكانت الإرادة الشعبية هى التى تحدد اختصاصات سلطات الدولة، والعلاقة فيما بينها فلا يجوز لإحدى السلطات أن تتجاوز ولايتها، بوصفها شخص اعتبارى يعلو على كل السلطات فى الدولة وأن منح المحاكم من النظر بطريق مباشر أو غير مباشر، فأى عمل يتعلق بأعمال السيادة هو تعبير عن إرادة المشرع فى عدم جواز الالتفاف حول ما يعد بأعمال السيادة، بإدخاله قسرا فى ولاية القضاء الذي قد استقر من قبله على خروج أعمال السيادة من ولايته” وبناء على ما أصدرته محكمة الأمور المستعجلة يحق للسلطات أن تبيع كل ما يحلو لها من أراضي مصرية ولا يحاسبها أحد!

إثبات ما لا يحتاج إثبات


القضاء لم يحكم بمصرية الأرض من دون أدلة، فهناك أدلة عديدة نظرت فيها المحكمة قبل أن تصدر حكمها منها “أن خريطة مصر التي صدرت طبعتها الأولى سنة 1912 وطبعتها الثانية 1913 موضّح فيها أسماء الجزر المصرية وضمنها تيران وصنافير؛ والأطلس التاريخي للمملكة العربية السعودية الذي طبع في عام 2000 لم يشمل جزيرتى تيران وصنافير ضمن الجزر التابعة للسعودية وإنشاء سجل مدنى مصري لجزيرة تيران؛ وكتاب وزارة المالية سنة 1945 باسم مسح لمصر والذي ذكر اسم جزيرة تيران فى صفحة 46؛ وقرار وزير الزراعة في 1982 بحظر صيد الطيور والحيوانات في منطقة جزيرة تيران؛ وقرار وزير الداخلية في 1982 بإنشاء نقطة شرطة مستديمة في جزيرة تيران تابعة لقسم شرطة سانت كاترين؛ ووثيقة صادرة عن بريطانيا العظمى عام 1892 تشير إلى وجود قوات مصرية على جزيرة تيران قبل هذا التاريخ؛ واجتماع الأمم المتحدة رقم 659 لعام 1945، والذي يؤكد فيه مندوب مصر أن المصريين موجودون على جزيرتي تيران وصنافير منذ فترة طويلة، واتفاقية عام 1906 التي تم الاعتراف فيها بأن «الجزيرتين جزء لا يتجزأ من الأراضي المصرية»؛ ومانشيت جريدة «الأهرام» في 19 يناير 1982: بعنوان ” رفع العلم المصري على تيران وصنافير ووضع قوات شرطة بعد انسحاب إسرائيل” وقد نشرته جريدة البداية على موقعها الالكتروني.
بالإضافة إلى أن الحكومة لم تقدم وثيقة رسمية واحدة تثبت ممارسة السعودية لأى من أعمال السيادة على الجزيرتين قبل أو منذ إعلان المملكة سنة 1932م حتى وقتنا الحالي!


السجن لمن قال تيران وصنافير مصريتان، والحكم لمن قال سعوديتان


قوات الأمن تلقي القبض على أحد المتظاهرين اعتراضًا على بيع تيران وصنافير للسعودية (EPA)



بحسب تقريرً للمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بعنوان “عام على قضايا الأرض” حركت النيابة العامة 24 قضية في القاهرة الكبرى و11 محافظة أخرى وشملت القضايا 432 شخصًا تعرضوا للاعتقال بسبب اعتراضهم على بيع جزيرتي تيران وصنافير، إلا أن 288 منهم فقط أُحيلوا للمحاكم المختلفة بينما حُفظ التحقيق مع 144 آخرين.
وحسب التقرير أصدرت محاكم الدرجة الأولى أحكامًا بالإدانة ضد 189 شخصًا، وقضت ببراءة 98 آخرين، وإحالة طفل إلى محكمة الأحداث.
وجاء في التقرير أنه «تخلت المحاكم بصورة كبيرة عن تسبيب أحكامها بطريقة مفصلة، فأغلب الأحكام، سواء بالبراءة أو الإدانة، كانت تَسطر اطمئنانها أو عدم اطمئنانها إلى صحة محاضر الضبط والتحريات لإصدار حكمها؛ وذلك، دون أن تفصل، في أغلبها، أسباب هذا الاطمئنان أو انعدامه».
وتبقى تساؤلات يطرحها أصحاب الأرض
* هل يمكن محاكمة النظام الحالي وكل من شارك في بيع الأرض بتهمة الخيانة العظمى، أو حتي على تهمة بث أخبار كاذبة بعد أن أثبت القضاء مصرية الجزيرتين؟
*هل يمكن إعادة كفالات مجموعها ٤ مليون و٧٠٠ ألف جنيه حصلت عليها الدولة للإفراج عن 47 متظاهرًا من متظاهري تيران وصنافير في أسبوع واحد؟
* هل يمكن لشعب خسر حريته المحافظة على أرضه؟!

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة