أزهى عصور المكرونة


AP



عندما وقعت مجزرة الأولتراس في بورسعيد، فبراير 2012، كرهت كل شعب بورسعيد وتمنيت أن ينفصل عن مصر نهائيًا وتساءلت غاضبًا: بأي ذنب قتلوا؟ وكانت هناك أحاديث شبابية في القاهرة عن ضرورة الذهاب إلى بورسعيد للانتقام من كل الشعب (أحاديث جادة). 

 
لا أؤمن بنظرية المؤامرة التي تقول أن  قتل السفير الروسي أندريه كارلوف، متأثرا بجراحه جراء تعرضه لإطلاق النار في أنقرة، حدث بتدبير من جهة بعينها تسعى لإحداث وقيعة بين البلدين.
 

ولما وقعت مجزرة العباسية في مايو 2012، تساءلت عن فصيلة أهل العباسية، وكيف شاركوا في قتل المتظاهرين الذين احتشدوا في الشوارع من أجل مطالب الثورة، وكرهت منطقة العباسية وكرهت المرور منها.

مرت الأيام وعلمت أن تفكيري كان نتاجًا للغضب، والغضب أحيانًا ينتصر للحق، وأحيانًا أخرى يؤدي إلى أفكار هوجاء "إن الغضب وقلة الاحتمال هما أعداء الفهم الصائب"- هكذا قال غاندي.

فالعقل والمنطق يقولان، أن مجزرة بورسعيد لها قتلة يجب أن يُقدموا للعدالة، ولا يعقل محاكمة شعب بورسعيد بأكمله، ولو شارك بعض من أبناء بورسعيد في القتل ليس معناه مثلًا أن ننسى ملحمة أهالي بورسعيد في التصدي للعدوان الثلاثي. وأهالي العباسية منهم من كان في صفوف الثوار ويدافعون عنهم ويهتفون بمطالبهم، كان هذا التفكير بعد شهور وربما أعوام.

***
ما يحدث في سوريا من إبادة جماعية لا يقبله عقل ولا إنسانية ولا دين، لا يقبله إلا وحوش دامية، وما يحدث أدى إلى  مشاعر غاضبة تجاه القاتل الرئيسي والداعم الأكبر لما يحدث في سوريا "النظام الروسي" بقيادة بوتين. لذا لا أؤمن بنظرية المؤامرة التي تقول أن  قتل السفير الروسي أندريه كارلوف، متأثرا بجراحه جراء تعرضه لإطلاق النار في أنقرة، حدث بتدبير من جهة بعينها تسعى لإحداث وقيعة بين البلدين، أو تريد الانتقام من روسيا، أو تركيا. وفي تقديري أن الشرطي القاتل، البالغ من العمر 22 عامًا والذي يُدعى "مولود الطنطاش" لديه مبررات كافية تجعله يقتل سفير روسيا بصفته سفيرًا لنظام شارك في إبادة جماعية للشعب وفي تهجير فاحش لشعب سوريا بشيوخه ونسائه وأطفاله بدعوى الحرب على داعش، رغم علم الشرطي بأنه حتمًا سيخترق الرصاص جسده بعد ما فعله، ولكنه لم يبالِ، أراد الانتقام.

***
لو فكرنا بمنطق الغضب والانتقام، فربما انفصلت بورسعيد عن مصر مثلًا، أو صار مسجد النور ميدانًا خاصة بدولة العباسية، ولا داعي لأن يعيش كل السفراء فلنقتل سفير روسيا والصين وإيران وسوريا لأن جميعهم شاركوا في الحرب على سوريا. ونعتقل سفير تركيا لانتمائه لجماعة الإخوان، ونتخلص من سفير السعودية لمشاركة نظامه في الحرب على اليمن، ولا تنسى أخي القارئ أنه يجب علينا أن نضرب سد النهضة بالطائرات لأن أثيوبيا ستقضي على مياه النيل، ودعونا نبدأ الحرب العالمية الثالثة، لا داعي لتضييع الوقت، هيا بنا، اصنعوا الأسلحة واستعدوا للحرب العالمية، أم أنكم ستحاربون بالشوم والسيوف؟

في 28 يونيو عام 1914، أطلق شاب رصاصتين، من مسدس "براوننغ 9 ملم 1910FN" قامت بعدهما "حرب عالمية" دموية اجتاحت معظم أنحاء أوروبا.

هذا الشاب الصربي، اسمه "غافريلو برينسيب". وأطلق رصاصتين على وريث عرش الإمبراطورية النمساوية الهنغارية الأرشيدوق "فرانز فرديناند"، الذي انطلق في مركبة مكشوفة فى شوارع المدينة الصربية (سراييفو) وبجواره زوجته. وكانت إمبراطورية النمسا والمجر قد ضمّت بالقوة إقليمي البوسنة والهرسك إلى ممتلكات الإمبراطورية، وأعلنت نيّتها ضم الصرب أيضًا، مما أثار سخط القوميين الصرب الذين كانوا ينادون بدولة صربية مستقلة تضم الصرب والبوسنة والهرسك.
وقد أدى الحادث إلى مقتل ولي العهد وزوجته صوفي، وبعدها بأسابيع تصاعدت الأحداث، حتى وصلت إلى حرب عالمية، بدأت في 1914 وانتهت في عام 1918، بعد مقتل ملايين الأوروبيين وانهيار 3 إمبراطوريات أوروبية.

وانتقمت الإمبراطورية النمساوية المجرية من مملكة صربيا في 28 يوليو عام 1914، بإعلان الحرب عليها في ذلك اليوم وغزوها، فردت ألمانيا بغزو بلجيكا ولوكسمبورغ، وسرعان ما تحطّم السلام الهش بين القوى الكبرى فى أوروبا، وأصبحت هناك جبهتان متضادتان، الأولى تتكون من: صربيا، وروسيا، وبريطانيا، وفرنسا، وانضمت لها بعد ذلك إيطاليا، والثانية تتكون من: إمبراطورية النمسا والمجر، وألمانيا، وانضمت لهما بعد ذلك الإمبراطورية العثمانية.

انتهت الحرب باستسلام ألمانيا وانهيار إمبراطورية النمسا والمجر. وتم توقيع معاهدة "فرساي" في "باريس" التى أدّت إلى محو إمبراطورية النمسا والمجر من خريطة أوروبا، وتحوّل ألمانيا من إمبراطورية إلى جمهورية، وانتهت الإمبراطورية العثمانية إلى محاضرات تاريخية فقط بعد أن تم تقسيمها على الدول المنتصرة وانهار اقتصاد العالم، واستعان الألمان بـ "هتلر"، فأشعلوا حربًا عالمية ثانية بسببها وجدت القنبلة الذرية.

فهل نحن مستعدون للدخول في حرب عالمية ثالثة؟!

أعلم أن هناك من يجيب بـ"نعم" مندفعًا صارخًا، دعونا ننتقم، وسنلقي بأنفسنا في بحار الدماء من دون خوف!

ولكن يا عزيزي أنت في موقف ضعيف للغاية، لا تصدق كلمات الأشعار التي تُقال تطبيلًا للأنظمة الديكتاتورية، نحن أقوياء، سنسحق العدو، إنها ليست معركة بالسيف، ولا تصدق أن العرب حاليًا قادرون على أي شئ أكثر من أكل المكرونة، بل نحن في أزهى عصور المكرونة، نحن لا نصنع أسلحة، ولا حتى فوانيس رمضان، كيف سنحارب؟!

بالإضافة إلى أن مفهوم المقاومة ليس من ضمنه قتل السفراء، وقلت سابقًا وما زلت أكرر:

سياسيًا، لا يُقتل السفراء.

دينيًا، لا يُقتل الرسل.

أخلاقيًا، لا يُقتل الرجل غدرًا.

ثوريًا، فلتقاتل في أرض المعركة.

 
سياسيًا، ودينيًا، وأخلاقيًا، وثوريًا، وإنسانيًا، ما يحدث في سوريا مجزرة بقيادة "بوتين" وأعوانه من الأنظمة القاتلة.
 

إنسانيًا، لا تتحول إلى قاتل كي تقاوم القاتل، وإلا صرت مثله "قاتل"!

ولأن على المرء أن يدافع عن نفسه بعد كل موقف قد لا يعجب كثير من الناس، فأقول أيضًا: سياسيًا، ودينيًا، وأخلاقيًا، وثوريًا، وإنسانيًا، ما يحدث في سوريا مجزرة بقيادة "بوتين" وأعوانه من الأنظمة القاتلة.

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة