بقولك مسيحي !


REUTERS


رميت نفسي في خلاط الشعب "الميكروباص" الذي يشعرني بأنني جالس فوق سيارة صيد في إحدى غابات أفريقيا والسائق يطارد حيوانات مفترسة.

أهرب دائمًا من جمع الأجرة، لا قدر الله لو جمعتها فقد بدأت يومي بـ "العكننة"، أُمثل دور النائم، أو الأطرش، أو أمثل أني لا أشعر بالأيادي التي تخبّط على كتفي من الخلف لإعطائي الأجرة وكأنني نائب السائق، أمسك هاتفي لعمل مكالمة وهمية مع عبد السلام أو عبد الوهاب أو عبد المتعال.


أفلا نحتاج لمراجعة أنفسنا، وأن نخوض تجربة التعامل معًا بناء على إنسانيتنا فقط من دون النظر إلى جنس أو لون أو فكر أو دين؟


وفي هذا الصباح كنت أضع هاتفي على أذني وأضحك على نكتة عبد السلام التي لم يقلها، والذي لم أقابله في حياتي، في أثناء ذلك أعطيت الأجرة لفتى يجلس بجواري، ليتكفل هو بجمع الأجرة، وعندما تخلصت من الأجرة، أغلقت الهاتف في وجه عبد السلام وقطعت الضحك فورًا.

من الواضح أن الفتى اكتشف أن عبد السلام شخص وهمي؛ فنظر لي نظرة الغاضب أو القرفان، وأعتقد أنه سبّني بلفظ قبيح في السر، ولكني لم أبالِ لنظراته، ونظرت له نظرة المنتصر انتصارات يومية.

لمحت في يده صليب، فتبدلت مشاعري، وكنت سأعتذر له على أنني "دبّسته" في الأجرة، وربما أهتف "عاش الهلال مع الصليب" حتى لا يظن أنني أضطهده.

بعد أن تحرك "خلاط الشعب" أو الميكروباص، دار هذا الحوار بين السائق و"البرنس" الرأسمالي الذي استحوذ على المقعدين بجوار السائق.

قال السائق:
- بيقول لك في راجل على قد حاله اسمه "مجدي مكين"، عنده عربية كارو بيبيع عليها سمك، اتعذب في قسم شرطة من ظابط ابن....
= آه ما انا عرفت. قالها وهو يحاول إظهار هاتفه.
- انت معاك تليفون آندر وير؟ (قالها هكذا).
= أه، عشان كده بقول لك عرفت، وعلى فكرة الراجل ده خَبَط البوكس بعربيته، عشان كده حصل اللي حصل.
- لا والله؟، بس دي كارو.
= آه، مانا واخد بالي، وفيه كلام إنه متعذبش ولا حاجة، وإنه اتقلب بالعربية الكارو، وكلام تاني إن أهله عاملين الحوار ده عشان ياخدوا فلوس.
- لا والله؟
= أه والله، أنا عامل "أعجبني" لصفحة الشرطة المصرية؛ الصفحة نفسها بتقول الكلام دوّن.
- بس إزاي اتقلب بعربية كارو وحصل فيه كده؟ ده الفيديو كان باين إنه مسلوخ تعذيب، يا راجل دانا عملت حادثة ع الدايري، ولا حصل لي الهوا، تقول لي حادثة كارو؟!
= هما بيقولوا كده.
حلّ السكوت على "خلاّط الشعب"، وبدأ الخلاط في إفراز خرائه على المخلوطين داخله، ليصدر أصواتًا مزعجة، يقولون أنها أغاني شعبية، وما هي بأغاني وما هي بشعبية. الطريق طويل ومُمّل، وأنا أحاول القراءة عن زعيم موريتاني اسمه "بيرام ولد عبيدي"، ولكني أفشل لشعوري بأن أحدهم جلس في رأسي، ويطبل فيها بشاكوش.

يحرك الرأسمالي المستحوذ على مقعدين بأمواله فَمَه، وينظر للسائق محاولًا إعطائه "التايهة"، فيخفض السائق صوت التخبيط، كي يسمع ما يقوله الرأسمالي.

= بقول لك الراجل اللي اسمه "مجدي مكين" مسيحي.

اتجهت أنظار الفتى الذي دبّسته في الأجرة نحو السائق والرأسمالي ليسمع ما يدور بينهما.

- لا والله؟ أنا أول مرة أعرف إنه مسيحي.

= متفمهمش بقى إيه الحكاية، تحس كده إن في حد عايز يعمل فتنة، البلد دي عليها العين والله.

- أنا أعرف سواق في الموقف مسيحي بس جدع.

= ولا جدعان ولا حاجة، دول بيعملوا كده عشان هما قِلّة.

أنظر للفتى الذي تحوّل وجهه للون البرتقال، محاولًا توصيله رسالة مفادها أنني لست منهم، ويبدو أنني فشلت.

يبدأ السائق الذي كان يصف صديقه المسيحي بـ "الجدع" بتغيير موقفه.


أغلب المجتمع المصري يتعامل مع التمييز الديني على أنه أمر "عادي"، فصار من الطبيعي أن يكون الدعاء في خطبة الجمعة على "النصارى" في مسجد ربما يسكن بجواره مسيحيون!


- هو إنت عندك حق الصراحة، أنا بحس أحيانا إنه بيعمل الحركات دي عشان مصلحته.

= ما أنا بقول لك، هتلاقي بقى الجدع المسيحي اللي بيقولوا اتعذب ده، حوار عشان أهله ياخدوا قرشين تعويضات.

يهرش السائق في مؤخرة رأسه، ثم يقول السائق متعجبًا:

- بس أنا شفت له فيديو على قناة مكلمين، بيقولوا إنه اتعذب على الفحم.

= طيب ده كلام ناس عاقلين؟ هو فرخة عشان يحطوه على الفحم؟ وبعدين حد يتفرج على قناة مكلمين؟

وبدأت حوارات أخرى، عن الإعلام وكرة القدم، والرغيف "أبو جنيه"؛ وانتهى حوارهما عن المسيحيين، ولكن شعور الفتى لم ينتهِ، لو كنت مكانه لشعرت بالظلم والسخط، لو ركبت وسيلة مواصلات في إيطاليا ودار حوار عن المسلمين وأنهم يستحقون التعذيب لكرهت إيطاليا للأبد.

للأسف، أغلب المجتمع المصري يتعامل مع التمييز الديني على أنه أمر "عادي"، فصار من الطبيعي أن يكون الدعاء في خطبة الجمعة على "النصارى" في مسجد ربما يسكن بجواره مسيحيون، ولو دعا المسيحيون في كنائسهم على المسلمين لحدثت كارثة كبرى.

أفلا نحتاج لمراجعة أنفسنا، وأن نخوض تجربة التعامل معًا بناء على إنسانيتنا فقط من دون النظر إلى جنس أو لون أو فكر أو دين؟ 

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة