مكتبة الكرامة |
داعش، تجتهد في محاربة الكتب والكتابة والفنون، وكل شئ يمكنه المساهمة في أن يُثمر أفكارًا تخالف عقيدة الدم التي تؤمن بها، أحرقت مكتبات عامة، وأخرى خاصة، ودمرت مكتبة الموصل المركزية في العراق وصادرت الكتب التي لا تتبنى أفكارهم المتطرفة وأحرقتها.
النظام الحالي قد أعلنها صريحة في وجوهنا، يمكن للأطفال أن يقرأوا كتب المدرسة التي كتبتها بيدي، ويمكن للشباب أن يكتبوا ما شاءوا بمراجعة أمنية، فالقراءة ليست للجميع !
كذلك الأنظمة القمعية، تشبه الجماعات المتطرفة إلى حد كبير، تحارب القراءة والأفكار والوعي. الفرق أن الجماعات المتطرفة تحاصر الأفكار بدعوى الحفاظ على الدين، والأنظمة تفعل ذلك بدعوى الحفاظ على الوطن، وهذا ثابت عبر التاريخ.
هتلر، عندما وصل إلى السلطة في ألمانيا، ليكتب تاريخه برماد الجثث المحروقة، لم تتحمل نازيته الكتب المخالفة له، وحمل طلاب وأساتذة جامعيون وقادة نازيون آلاف الكتب ووضعوها في النيران التي أعدتها الجنود في ميدان الأوبرا في وسط برلين.
بينوشيه، أيضًا أحرق الكتب التي لا تتفق مع عقيدته في الساحات؛ وزجّ بالكُتّاب في السجون بعد انقلابه على سلفادور الليندي في بداية السبعينات من القرن الماضي.
وفي القرن السادس عشر، أحرق الأرشيدوق دييغو دي لاندا كل مكتبات المكسيك القديمة.
الأنظمة القمعية والجماعات المتطرفة كما يؤمنان بالدبابات والسيوف لبقائهما، يؤمنان بأن تجهيل الناس وتغييب عقولهم أمر ضروري لاستمرارهما، لأنهما لو لم يفعلا ذلك، قضت الشعوب عليهما.. كما أن الديكتاتوريات قائمة على الفقر، قائمة أيضًا على تغييب الوعي وهبوط مستوى التعليم، وكما لا يوجد ديكتاتور عادل، لا يوجد ديكتاتور يرغب في جعل المجتمع الذي يحكمه منفتحًا على العالم، فنشر الثقافات المختلفة التي تحترم بعضها بعضًا، شئ غير ممكن إلا في مجتمع مدني. والديكتاتور يبغض هاتين الكلمتين (مجتمع ومدني).
أدركت الأنظمة المصرية ذلك فتعمدت تجهيل الناس، ولعل أحوال المدارس الحكومية والجامعات خير دليل على ما يحدث من تجهيل متعمد، فما زال مستوى التعليم في مصر يقف عند المركز قبل الأخير على المستوى العالمي، حسب المؤشر الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.
***
أدرك المحامي الحقوقي "جمال عيد" أن الإنسان الواعي والمثقف يستطيع أن يفهم حقوقه ويدافع عنها ويساهم في تطوير مجتمعه، فقرر محاربة الفقر الثقافي المنتشر في الأحياء المهمشة، ولما حصل على جائزة "رولاند بيرجر" للكرامة الإنسانية في ألمانيا، في نوفمبر٢٠١١، وقدرها 340 ألف يورو، لنشاطه في مجال حقوق الإنسان؛ لم يقم الرجل بشتغيلها في التجارة، أو في عمل مشروع يضمن مستقبل أولاده، ولو فعل لما استطاع أحد أن ينكر عليه ذلك.
ولكنه قام بتخصيص قيمة الجائزة لإنشاء مكتبات عامة في الأماكن الشعبية المهمشة، لخدمة الفقراء ثقافيًا، وأسماها "مكتبات الكرامة"، وأنشئ 5 مكتبات عامة في أحياء طرة ودار السلام والزقازيق وبولاق الدكرور والخانكة، تخدم المكتبات نحو 40 ألف مواطن، وكما اعتمدت على جائزة "عيد" ومتطوعين من المجتمع المحلي من أجل تنظيم ورش عمل ومحاضرات لرواد المكتبة، اعتمدت في استمرارها على التبرعات العينية، فرفض "عيد" أي تبرعات مالية وطلب ممن يريدون التبرع المادي أن يستبدلوه بالكتب.
كان للمكتبات نشاطات مختلفة، منها تشجيع شباب المناطق الشعبية على الكتابة في جريدة محلية تصدرها المكتبة، والتعبير عن آرائهم وعن مجتمعاتهم المهمشة.
وكان "عيد" يريد إنشاء فروع آخرى في أحياء متعددة، بل وإنشاء مكتبات في السجون بشرط تفعيلها والسماح للمساجين بالاستفادة منها، لا أن تكون مجرد مكتبات مغلقة، ولكن نظامًا لا يسمح بدخول الكتب إلى المساجين لا يمكنه قبول إنشاء مكتبات لن تكلفه جنيهًا واحد داخل السجون؛ بل لا يمكنه تحمل مكتبات خارج السجون.
لم يهتم النظام بالفقراء، فكما ساهم في تجويع بطونهم يساهم أيضًا في تجويع عقولهم، فلم يترك مكتبات الكرامة وشأنها، لا يحق للفقراء أن يقرأوا حتى لا يدركوا حقيقة حاكمهم، ولا سيما في مكتبات أنشأها حقوقي يدعم حرية الفكر والتعبير وتكرهه الدولة، فهو الحقوقي الذي يصدر تقاريرًا فاضحة لانتهاكات النظام، أي نظام، وهو الحقوقي الذي لا يشبه حافظ أبو سعدة أو داليا زيادة في النفاق للنظام، وهو الذي لا يمكنه المشاركة في تضليل الناس وإرسال رسالة مفادها أن السجون تشبه الفنادق.
كما لم يكن شريكًا مع أحد أعمدة النظام الحالي في مكتبات الكرامة كي يحميها من الاعتداءات والتشميع. أطلق على المكتبات اسم "الكرامة" في ظل نظام يدهس كرامة المواطنين.
أغلق النظام ثلاث مكتبات من مكتبات الكرامة في الزقازيق، وطرة، ودار السلام، من دون محضر رسمي أو أمر قضائي.. ولا أدري شعور رجال الشرطة وهم يقتحمون مكتبات بها أطفال وليست أوكارًا لتجارة المخدرات ليطردوهم منها ويضعون عليها الشمع الأحمر. ناهيك عن الكراهية التي ستعشش في عقول الأطفال تجاه من أغلقوا مكتبات كانوا يتعلمون بها الرسم والفنون.
لم يهتم النظام بالفقراء، فكما ساهم في تجويع بطونهم يساهم أيضًا في تجويع عقولهم، فلم يترك مكتبات الكرامة وشأنها، لا يحق للفقراء أن يقرأوا حتى لا يدركوا حقيقة حاكمهم.
النظام الحالي قد أعلنها صريحة في وجوهنا، يمكن للأطفال أن يقرأوا كتب المدرسة التي كتبتها بيدي، ويمكن للشباب أن يكتبوا ما شاءوا بمراجعة أمنية، فالقراءة ليست للجميع، لأن انتشار الثقافة والأفكار المختلفة بين عامة الناس يجعلهم لا يمضون خلفنا كما نريد، ولن نسمح بذلك. وانتشار الجهل يُعمي الناس عن الحقائق، ويجعلهم يرون الباطل حق، والحق باطل، ويحبون الفساد، ويكرهون الثورات التي اشتعلت من أجل التغيير للأفضل. وهذا ما نريده.
#لا_لغلق_مكتبات_الكرامة