مئات الأشخاص يشاركون في تشييع المدون الجزائري محمد تامالت "alghad.tv"
|
- هل أنت نادم على ما فعلت؟
أضرب تامالت عن الطعام بعد أن فقد حريته، وتدهورت حالته الصحية، ودخل في غيبوبة، ولكن أحدًا من عواجيز السلطة لم يلتفت لتدهور صحته، وانتقل فيروس الموت في السجون من مصر إلى الجزائر.
= لماذا أندم؟! لقد كتبت عن هؤلاء ونشرت صورًا عن البذخ الذي يعيشون فيه مع أبنائهم، وبهذا أنا دافعت عن الجزائر.
كان هذا رد الصحفي الجزائري محمد تامالت، على القاضي الذي كان يحاكمه بتهمة "السب بحق رئيس الجمهورية وإهانة هيئة نظامية"، بعد نشره تقاريرًا مصورة عن بذخ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، والوزير الأول عبد المالك سلال، وزوجته وابنته، وقائد أركان الجيش قايد صالح وأبنائه.
قبل أن ينطق القاضي بحكمه، خاطب تامالت ضمير القاضي لعله يستيقظ؛ قائلًا:
= إنهم حذروني من صرامتك سيدي القاضي لكني أثق بصحوة ضميرك.
رد القاضي بعجرفة تليق بقاض لا يحكم إلا بما يرضي حاكمه:
- لا تتدخل فيما لا يعنيك وارحل.
لم يستيقظ ضمير القاضي كما تمنّى تامالت، ولو دقيقة واحدة كانت كفيلة بأن ينطق فيها كلمة حق، ولم ينظر للأوراق ولا للاتهامات الموجهة لـ تامالت، وقرر الانحياز للديكتاتور العجوز "بوتفليقة" الذي بلغ من العمر أرذله، وقضى القاضي بتأييد الحكم على الصحفي الشجاع بالسجن عامين؛ في 9 أغسطس 2016.
لو كان تامالت أعلن ندمه واعتذر للديكتاتور لربما رفق به الديكتاتور وبالتالي رفق به القاضي، لكن تامالت قرر أن يثبت على الحق حتى النهاية، وقرر ألا يرضي غرور بوتفليقة، وأن يصر على ما قاله مهما كانت العواقب.
الديكتاتور في كل زمان ومكان لا يتحمل أن يكون أحدهم شجاعًا، ويُحب أن يخضع له الجميع، بل يروق له أن يلحقوا اسمه بلفظ الفخامة، ففي 29 فبراير 2016، قررت قناة "كنال ألجيري" الناطقة باللغة الفرنسية في التلفزيون الجزائري، استبعاد الصحفي "أحمد لحري" ومنعته من تقديم نشرة أخبار الثامنة؛ لأنه لم يذكر عبارة "فخامة الرئيس"، واكتفى بذكر اسم الرئيس "عبد العزيز بوتفليقة"، وقال وزير الاتصال الجزائري حميد قرين، أن"الصحفي تمادى في عدم احترام صفة رئيس الجمهورية، وأن إدارة تحرير القناة وجهت لمقدم الأخبار عدة ملاحظات في هذا الشأن، ولكنه رفض التقيد بها". فلا عجب من محاكمة تامالت لأنه نشر صورًا وكتب مقالات وأشعار عن بذخ النظام الحاكم وفساده.
أضرب تامالت عن الطعام بعد أن فقد حريته، وتدهورت حالته الصحية، ودخل في غيبوبة، ولكن أحدًا من عواجيز السلطة لم يلتفت لتدهور صحته، وانتقل فيروس الموت في السجون من مصر إلى الجزائر، ومات تامالت البالغ من العمر 40 عامًا.
***
الصحفي والشاعر محمد تامالت، من مواليد أغسطس 1975، درس علوم الصحافة والاتصال في جامعة الجزائر، التحق بمهنة الصحافة بالتوازي مع دراسته في صيف عام 1993، وتحول بعد تخرجه إلى كتابة المقالات التحليلية، وإجراء المقابلات والتحقيقات الصحفية، وكتب في صحيفة الشعب، والصباح، والأحداث، والمستقبل، كما كانت له مساهمات في الخبر ، والشروق، والواحة.
سافر إلى بريطانيا لإعداد رسالة الماجستير في الإعلام، ونُشرت له عشرات المقالات في القدس العربي، والشرق الأوسط، وميدل إيست أون لاين، والعرب تايمز، والأهرام، وإيلاف، كما عمل مراسلًا لقناة فرانس 24، وله قصائد منشورة في العديد من الصحف، وترجمات من الفرنسية والإنجليزية إلى العربية.
وفي بريطانيا كان يدير موقع "السياق العربي"، ويقود حملة نضال صحافية شرسة ضد ديكتاتورية العجوز بوتفليقة ورجاله، ولم تكن لديه حدود في انتقاداته للنظام الجزائري وفي كشف فضائحهم، وخصص في الموقع قسمًا بعنوان "ملفات ثقيلة"، عرض فيه تقاريره الجريئة التي تناولت فساد النظام الحاكم برئيسه وحكومته وجنرالاته وعائلاتهم، ولم يتوقف عند الخطوط الحمراء التي وضعها النظام أمام الصحافة والإعلام، حتى أنه تحدث عن قائد الجيش أحمد قايد صالح، ومدير المخابرات الجنرال بشير طرطاق وأشار لفسادهما.
ونشر تامالت صورًا أثبتت أن أبناء الجنرالات يؤدون امتحاناتهم في أماكن خاصة وأنهم لا ينجحون بمجهوداتهم مثل بقية أبناء الشعب الجزائري، وساهم في الحملة الإلكترونية التي فضحت وزارة التربية حينما منحت قسمًا كاملًا في إحدى مدارس "ورقلة" لابن الجنرال عبد الرازق الشريف ليؤدي الامتحان وحده.
وتفاخر تامالت حينها قائلًا: "نحن في السياق العربي أول من تحدثنا عن أولاد الجنرال عبد الرزاق الشريف الذين يتعاملون مع الشعب مثل أمراء الخليج وقد نشرنا فيديو قبل أشهر يصور لكم حياة البذخ والسفه والمجون التي يعيشها وليد شريف ابن الجنرال الذي لطخ ذكرى الشهيد الخالد مصطفى بن بولعيد بمصاهرته إحدى أخواته، فإذا ظهر اسمه بين الناجحين فتأكدوا أن نجاحه كان بالغش" (مصطفى بولعيد، شخصية ثورية تاريخية وقائد عسكري جزائري و يُعد أحد قادة الثورة الجزائرية وجبهة التحرير الوطني).
لم تكن شجاعة تامالت نتيجة لكونه يعيش في بريطانيا مما جعله يضمن عدم اعتقاله، فقد عاد إلى الجزائر في يونيو الماضي، رغم علمه بأن احتمالية وجوده خارج السجن ضئيلة.
قرر أن يواجه النظام من داخل الجزائر، وكتب بعد وصوله "وصلت الجزائر منذ أربع ساعات، لم يتم توقيفي في المطار ولكن لا أمان في هذا النظام؛ فقد تبعتني سيارتان من المطار إلى منزل الوالدة الصغير التي فرضت عليّ إقامة جبرية ومنعتني من الخروج لمدة ساعة خوفًا عليّ".
مات تامالت مقتولًا أو مُضربًا عن الطعام لكن مات منتصرًا وشهيدًا للحقّ والأقلام الحرة النادرة في الصحافة، وبقي بوتفليقة على قيد الحياة متحركًا على كرسيه!
***
مات تامالت مقتولًا أو مُضربًا عن الطعام لكن مات منتصرًا وشهيدًا للحقّ والأقلام الحرة النادرة في الصحافة، وبقي بوتفليقة على قيد الحياة متحركًا على كرسيه، ليحتفل بإتمام 80 عامًا من عمره في مارس المقبل؛ وعلى 18 عامًا على حكمه للجزائر.
رحم الله كل "تامالت"، ورحمنا من كل "بوتفليقة".