مدونات الجزيرة
في طفولتنا كنا جيرانًا، والطفولة في القرى مختلفة عن المدن، يجتمع أطفال المنطقة في أرض واسعة ليطيروا طيارتهم الورق ويتسابقون أو يلعبون كرة القدم أو نشارك في لعبة السبع طوبات أو البلي أو النحلة أو الأولى أو الاستغماية أو كهربا أو ثبت صنم، وكلها ألعاب قد تكون اختفت من الحياة، طفولتنا في القرية كانت ممتعة، وكنت لا أحفظ أسماء أطفال جيراننا، ولكن أحفظ وجوههم.
ولما بدأت طفولتنا تختفي ابتعدنا عن بعضنا، ولم نعد نتشارك في ألعاب الشوارع الجماعية، كنا نعرف وجوه بعضنا ونبتسم ونلقي السلام عندما نلتقي صدفة، ولكن شاءت الأقدار أن نتشارك في لعبة جماعية، كانت جماعية بشكل ضخم، فقد اجتمعت أحلامنا في مكان واحد، وهو ميدان التحرير، كنا نلعب مع قنابل الغاز المسيلة للدموع، عندما حاولنا أن نفعل ما بوسعنا من أجل أن يعيش أولادنا الذين لم يأتوا بعد في وطن يحترمهم ويحترمنا، وكانت هذه اللعبة الجماعية هي بداية الصداقة الحقيقية بيننا، عرفت اسمه جيدًا، اسمه "خالد كمال الرشيدي" من مواليد مارس 1990.
صرنا أصدقاء في يوم جمعة الغضب 28 يناير 2011، والحقيقة أن كل من تعرفت عليهم في هذا اليوم ظلوا رفاقًا حتى الآن، منهم من سُجن، ومنهم من غادر الوطن، ومنهم من مات، ومنهم من شغلته الحياة، لكننا ما زلنا رفاق، حتى هؤلاء الذين ماتوا أو قتلوا، ما زلنا رفاق حلم واحد.
على أطراف ميدان التحرير كنا نقاوم وابل من قنابل الغاز المسيل للدموع، كانت تفرقنا رصاصات الأمن كثيرًا ولكننا نلتقي مجددًا بعد أن تفرقنا أسلحتهم رغم كثافة الأعداد المحتشدة في شوارع وسط القاهرة.
أذكر أن قوات الأمن كانت تطاردنا بعد صلاة الجمعة مباشرة، ووقع خالد على الأرض، فأمسكت كف يده اليسرى، وكان يحاول أن يضع كف يده اليمنى على أنفه ليقاوم محاولات خنقه بالغاز، ويقول لي مستغيثًا "اتركني، اتركني" ولكني لم أفعل، كنت أظنه يخشى عليّ من التعثر حينها فأقع في أيادي قوات الأمن المركزي، ولكن الواقع أن قنابل الغاز جعلتني لا أرى شيئًا أمامي وكنت أسحل "خالد" على الأسفلت وأتقدم إلى الأمام بشكل سريع كضابط ألقى القبض على أحد المتظاهرين ويلقنه درسًا لن ينساه.
وكان جسد خالد حينها يرتطم في السيارات المركونة بجوار الأرصفة، وأنا أصر على جرجرته على الأرض، لذا كان يقول "اتركني" وبعدما نجحت في سحله على الأسفلت ورطم جسده في كل سيارات شارع طلعت حرب، دخلنا إحدى العمارات العتيقة لنحتمي بها من كثافة الغاز، ولنختبئ من عساكر الأمن المركزي، وقابلنا هناك مجموعة من الأصدقاء كانوا معنا منذ الصباح، فقال خالد ضاحكًا وهو يسعل بشدة: "هل تظن أنك أنقذتني يا سوبر مان؟ لقد تخبط جسدي في كل سيارات القاهرة بسببك" وظللنا نضحك على هذه القصة كل شهر تقريبًا، وفي كل مرة نرويها لرفاقنا، يضحكون، حتى أننا تحدثنا عن القصة وقت أن زارني خالد في السجن، وضحكنا إلى حد البكاء.
قبل دخولي السجن كنت وخالد لا نتكلم، ولا أذكر سببًا لذلك، وأعتقد أنه أيضًا لم يكن يذكر سبب الخلاف بيننا، ولما جاء لزيارتي في سجن أبو زعبل، لم نتحدث عن أي خلافات، وأخبرني بأنه على وشك الزواج، وأنه اقترب من شراء الذهب لعروسه. وكانت السعادة تبدو على وجهه وهو يقول "هتحضر فرحي إن شاء الله".
وفي الليلة التي اتجه فيها نحو الصائغ ليشتري الذهب أخيرًا، كانت هناك مظاهرة في قرية ناهيا، وكانت قوات الأمن قد قطعت مسافات طويلة لتفض هذه المظاهرة التي لن تضر ولن تفيد، ولكن الفض كان بالرصاص الحي، وشاءت الأقدار أن يتواجد خالد في مكان المظاهرة، فخرجت رصاصة حية من بندقية أحد رجال الأمن لتخترق رأس خالد من الخلف. كان هذا في يوم 13 نوفمبر 2014، وكنت حينها في السجن. ولما علمت ما حدث، أدركت أن خالد جاءني ليتصالح معي قبل أن يرحل، كان لا يمكنه الرحيل من دون أن نتصالح، لا يمكنه فعل ذلك أبدًا.
خالد الذي كان يحب الوطن جدًا، والذي كتب في يومياته أثناء خدمته في الجيش أنه يتمنى الموت من أجل تراب هذا الوطن ومن أجل الدفاع عنه، قتلته قوات أمن هذا الوطن، وقتلت أحلامه الصغيرة في الزواج ممن يحبها.. لا أدري لماذا ينتصر هؤلاء علينا فقط ولا يقتلون إلا أحلامنا الصغيرة ولا يتقنون إلا تدمير مستقبلنا ومستقبل هذا الوطن ولا يحبون لنا الحياة. قتلته وزارة الداخلية وادعت أن الإخوان هم من قتلوه، فالإخوان شماعة لكل شيء في هذا الوطن، ولو أن لو رجلًا طلّق امرأته لاتهموا الإخوان بأنهم السبب.. لم أحضر جنازة خالد، لأنني كنت سجينًا، وصليت عليه جنازة الغائب في زنزانتي بسجن أبو زعبل، وصلى معي زملائي في الزنزانة.
مرت على ذكرى وفاة خالد 3 سنوات، وما زلت كلما توجهت لزيارة أمه، أراها تبكي وكأنه مات منذ قليل، ثم تحكي كل حكاياته التي تخطر ببالها، وتعتذر عن بكائها عندما تراني أو ترى أحدًا من رفاق خالد، وتقول لنا: "أرى فيكم خالد، لأنه كان يحبكم جدًا" هي تحب أن تسمع كل شيء حدث مع خالد، مهما كان صغيرًا، وعندما أخبرتها بما حدث في يوم جمعة الغضب، ضحكت جدًا، وكنت حينها في غاية السعادة لأنها تضحك، ولكن ضحكها انتهى بالبكاء.
البكاء صار بالنسبة لها شيئًا عاديًا كالطعام والشراب والهواء، حتى أن الطبيب أخبرها بأن بصرها قد ضعف كثيرًا بسبب البكاء المستمر.. ثلاث سنوات من البكاء، وخالد يأتيها في منامها كثيرًا، وتحكي لنا كلما رأته، وأحيانا أسمع صوتها في الهاتف لتحدثني عما رأته وعما قاله لها، فهي تؤمن بأن هذه ليست أحلام.. وبما أنها ليست أحلام فأنا في انتظار زيارته، ولو حدث هذا وسألني عمّا أريد قبل أن يعود من حيث أتي، سأقول له "اذهب إلى أمك وضمها لحضنك جيدًا.. وقل لها: توقفي عن البكاء يا أمي".