مدونات الجزيرة
ماذا نحتاج من الدنيا الآن؟! هكذا سألت نفسي وأنا أطالع الإنجازات الحكومية التي نشرتها الجرائد القومية، الحمد لله، نحن نحارب الإرهاب جدًا، حتى لو لم ننتصر بعد، نحن ننتصر حتى لو قُتل أبناءنا على أيدي جماعات متطرفة. استطعنا حفر قناة جديدة، يدّعي البعض أنها تفريعة والعياذ بالله، ويزعم البعض الآخر أنها لن تفيدنا وحسبي الله، ولكني أشعر أنني استفدت منها جدًا، بصفتي صاحب "كُشك" سجائر في منطقة باب اللوق، فبعد طباعة صورة قناة السويس على عدد لا بأس به من الجنيهات المعدنية، توفرت "الفكة" أخيرًا بعدما كنت أعاني من ندرتها، وبعدما حدثت معارك عنيفة بيني وبين زبائن الكشك بسبب إصراري على إعطائهم الباقي في هيئة "لبان" وإصرارهم على أن أعطيهم حقهم "نقود" وكنت أتعجب من كونهم يظنون أن الكشك فرع للبنك المركزي، وأن عليّ توفير الفكة فورًا.
على كل حال ورغم أنني لا أرى من الإنجازات إلّا أن "كُشكي" العزيز ما زال قائمًا في مكانه، لم تهدمه الحكومة بعد، إلا أنني سأصدق كل ما يُكتب في الجرائد من إنجازات، ولا أحب أن يسألني أحدهم كيف أصدقها وأنا لا أشعر بها؟! ولو تصادف وسألني أحدهم، سأنظر خلفي ويميني ويساري وفوقي وتحتي، وأهمس في أذنه قائلًا: "لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم".
وفي إحدى الصباحات غير المبهجة التي لا تفرق عما قبلها، استيقظت من نومي مبكرًا جدًا، ونظرت بجواري فوجدت أحدهم يصدر أصواتا من أنفه، ووجدتي أصرخ وأضرب تعظيم سلام وأردد "سيادة الريس بنفسه؟" إلى أن سمعت صوتها وهي تتحصر على حالي "انت رجعت للحشيش تاني يا راجل؟"، إنها زوجتي، ولا أدري كيف خُيّل لي أنها الرئيس، يبدو أن رؤية صورته في كل مكان جعلتني أتخيلها هو، تركت غرفتي وحاولت فتح الشباك لأدخن سيجارة بملابسي الداخلية كالعادة، ولكن الشباك لم يفتح بسهولة، فتحته بالقوة فإذا بشيء كان متعلقًا عليه ويسقط في الشارع؛ نظرت إلى الأسفل فوجدت صورة الرئيس وكان أحدهم قد تبرع ليضعها على شرفة منزلي.
الحمد لله، لم يراني أحد الجيران حتى لا يظنني خائنًا أو جاسوسًا أو عضو في خلية ارهابية بعد أن أسقطت صورة الرئيس على الأرض فيبلغ عني فورًا ويتم تصفيتي في أثناء محاولتي إشعال السيجارة، تلفتّ يمينا ويسارًا فوجدت صورته معلقة هنا وهناك، نظرت إلى السماء باحثًا عن الشمس، فوجدته يحجبها ويبتسم لي وبجواره رمز النجمة وصورة للحاج برعي السباك يعلن دعمه بكل ما أوتي من صنابير مياه. أغلقت الشباك وفتحت التلفاز فوجدته في أخبار الصباح يحدثنا عن أنه استطاع محاربة الإرهاب في 3 دقائق، وأن الدولة تنشئ 9 مشاريع في الدقيقة الواحدة، وطريق جديد كل ربع ساعة، ويتحدث عن ضرورة رفع الدعم، وفي الوقت ذاته عن ضرورة تخفيض الأسعار، عن احترامه حقوق الإنسان، وعن انتقاده من يطالبه بتطبيق حقوق الإنسان في وقت يحارب فيه الإرهاب.
غلقت التلفاز، وأغلقت الشباك، وخرجت من المنزل وفي الشقة المقابلة وجدت باب جاري قد تحول إلى صورة كبيرة للرئيس، وفي كل طابق من العمارة وجدت الرئيس، ويا للهول وجدت على طاقية جلباب بواب العمارة وعلى حجاب زوجته، خرجت إلى الشارع فوجدته مؤخرات السيارات، وعلى عمدان النور، وفوق المدارس والمصانع والفنادق، والأتوبيسات العامة والخاصة، و.. ماذا؟ على قميصي أنا أيضًا! حاولت التأفف والغضب حينها، ولكني رأيت سيارات الشرطة مصطفة وراء بعضها ويبدو أنهم يبحثون عن مُعترض واحد، فضحكت جدًا، وهتفت رافعًا يدي إلى السماء "عاش الرئيس، أطال الله عمر الرئيس، حماكم الله، من دونكم كيف كنا نُعلّق كل هذه الصور لسيادة الرئيس بهذه السرعة؟".
والحمد لله، مر موكب سيارات الشرطة بسلام ولم يمسسني عسكري. ولما وصلت أخيرًا إلى الكشك الغالي على قلبي، وجدت سيارات شرطة وعساكر ولواءات وعمال وكراكات هدم وكأنهم قد نقلوا الحرب على الإرهاب من حدود الصحراء إلى حدود كشكي، يا إلهي، إنهم يحطمونه! حاولت الصراخ مستنجدًا حاولت البكاء حاولت الكلام حاولت التنفس، فلم أستطع، لأن ضابط شرطة قد أخبرني ألا أتحدث وإلا سيأخذوني على القسم مع الكشك. فحاولت حينها ألا أبدو للضابط على أنني معترض لا سمح الله، ولكني فقط أترجاه وأطلب السماح، على ماذا لا أدري، ولكني أبي رحمه الله قبل أن أرث منه الكشك قد أخبرني أن علي أن أطلب السماح من الشرطة عند الوقوع في مشكلة معهم، لأنني من دون تفكير المخطئ الوحيد في هذه المعركة، رجال الشرطة لا يخطئون ولا يذنبون.
نظرت إلى الضابط مبتسمًا جدًا وكأن شيئًا لم يحدث وقلت له:
- لا تهدموه لأنني أحبكم وأحبه، لا تهدموه لأنني أحب الرئيس وأحبه.
فهمس الضابط في أذني قائلًا:
- هذا هو "الكشك" الوحيد في المنطقة، الذي لم يعلق صورة الرئيس بعد. لن نسمح بالفوضى من جديد.
- لا تهدموه لأنني أحبكم وأحبه، لا تهدموه لأنني أحب الرئيس وأحبه.
فهمس الضابط في أذني قائلًا:
- هذا هو "الكشك" الوحيد في المنطقة، الذي لم يعلق صورة الرئيس بعد. لن نسمح بالفوضى من جديد.