لا تسرق الشوكولاتة.. الوطن أضمن !



بعد أن نجحت داعش في نصب كمائن في سيناء، وبعد أن هجّرت المسيحيين من بيوتهم، وبعد أن هدد الإرهاب كل شبر في مصر؛ اتخذت قوات الأمن المصرية ردًا قاسيًا لن ينساه التاريخ، وألقت القبض على «أب» سرق قطعة شوكولاتة لابنه؛  فانتهى الإرهاب وقُضي على الفقر والظلم والجهل والفساد.

القصة لا تحتمل السخرية، وقد تبدو السخرية منها شئ "بايخ" فالقضية كانت قضية حقًا، وكان بها قوات أمن ألقت القبض، ونيابة تأمر بحبس، وقضاء ينظر أمر المتهم ورجل يكتب أقوال المتهم وهيئة دفاع وشهود  واسطوانات مدمجة لإثبات سرقة الشيكولاتة.

كنت حينها أنتظر اتهامه بسرقة قطعة شوكولاتة والانتماء لجماعة محظورة، ولكن جرت الأمور على غير توقعاتي، فنشرت جريدة "الخراء التاسع" أخبارًا تفيد بأن الرجل لم يسرق قطعة الشوكولاتة من أجل ابنه؛ ولكنه سرقها لنفسه الضعيفة ولا حول ولا قوة إلا بالله. كما نشرت  صورًا للرجل وقالت أنها سبق صحفي؛ ولا يعلم أحد ما الفائدة من فضح الرجل ونشر صوره بهذا الشكل؟

 
إن فكرة التعاطف مع إنسان لأنه "كيوت" وشكله حلو، فكرة طبقية حقيرة.
 

كما حاول بعض المحسوبين على النظام الترويج لفكرة أن الرجل له سوابق؛ ولا أدري أي نوع من الدم يجري في وريد هؤلاء؟ هل هو دم حيوان الجربوع المصري الذي يعيش في الصحراء؟ أم دم حيوان الجعران الفرعوني؟ فهؤلاء لو تبنوا قضية الرجل ودافعوا عنه لنظر الناس لهم باحترام، حتى لو كان احترم منقوص.

على كل حال تشويه الفقراء ليست عادة جديدة، ففي 15 أكتوبر 2016 أحرق مواطن النيران في نفسه لمروره بضائقة مادية، ولما أظهر الجميع تعاطفه مع الشاب، بدأت الجرائد التابعة للأمن بنشر أخبار مثل "مفاجأة: الشاب الذي أشعل النار فى نفسه مسجل خطر" كما تعمدت بعض المواقع تعديل محتوى الخبر من "شاب يحرق نفسه بالاسكندرية لمروره بضائقة مادية" إلى "مسجل خطر يحرق نفسه لخلاف عائلي".

أما جريدة الأخبار الحكومية فقد هاجمت كل من عبّر عن استيائه بعد الواقعة وقالت "يحرص أصحاب الفكر المتطرف إلى تجنيد أي حدث لخدمة أغراضهم ولتحقيق رغباتهم الهادفة إلى إثارة الشعب المصري، وخلق حالة من الاستياء في الشارع" وكأن كاتب الخبر يعيش في كوكب غير ما نعيش فيه، فلا يحق لأحد الاستياء من الفقر كي لا يحسب على أصحاب الفكر المتطرف.

كما تبرع اللواء عبدالحميد خيرت، النائب السابق لرئيس جهاز مباحث أمن الدولة، وكتب على صفحته الشخصية "الشخص الذى أشعل النار فى نفسه بالإسكندرية، مسجل خطر وسبق اتهامه فى العديد من القضايا" وسرد سيادة اللواء أرقام القضايا التي اتهم فيها الشاب، ولكنه حتى الآن لم ولن يلاحظ أن كلها متعلقة بسرقات أشياء بسيطة للغاية، منها محفظة في أتوبيس نقل عام.

***
ما يحدث من تشويه متعمد لكل من يحظى بتعاطف شعبي، أسلوب مباركي قديم تستخدمه الأذرع الإعلامية للنظام للتخفيف من حدة الغضب؛ ففي سبتمبر 2010 أشعل مواطن النار في نفسه بمنطقة الدرب الأحمر بعد مروره بضائقة مادية، وتعمدت جريدة اليوم السابع حينها تسليط الضوء على أنه مسجل خطر، في داهية يعني، وأن علينا أن نحمد الله لأن حياته قد انتهت.

وقبل ثورة يناير بأربعة أيام أحرق عاطل نفسه في منطقة الطوابق بالهرم، لكن مجلة "دنيا الوطن" في 22 يناير 2011، قالت أيضًا أنه مسجل خطر يعاني من ضائقة مادية أدت إلى اكتئاب حاد.

تجاهلت وسائل إعلام كثيرة ما حدث في محافظة البحيرة فبراير الماضي، فقد أشعل سائق "توك توك" النار في نفسه ليلة زفافه بالبحيرة؛ اعتراضًا على استيلاء أمين شرطة على "التوك توك" مصدر رزقه الذي لا يلجأ للسرقة بسببه. لم يتم تداول القضية إعلاميًا سوى في برنامج العاشرة مساء على قناة دريم، وهذا الرجل الذي أحرق نفسه لو كانت قضيته قد أخذت نفس زخم سارق الشوكولاته لوجدنا الدولة وأتباعها تحاول إثبات أنه مسجل خطر ولا يجب التعاطف معه.

على كل حال تساوى من سرق علبة "شيكولاتة" بمن سرق مصر هو وعائلته، لكن الفارق الوحيد أن الأخير وعائلته لم يسجنوا كما يسجن البسطاء، والمسجلين خطر، لم يناموا على برش الزنزانة مثل الجميع ولم يحرموا من الكتب والأدوية والطعام ولم تمنع عنهم الأخبار؛ كانوا يعيشون في قصر رئاسي من نوع آخر.

***
انتشرت ظاهرة الفقر، وتزايدت أعداد الفقراء، بسبب سياسات الإفقار المتعمدة وانتشار ظاهرة الفساد التي حتمًا تؤدي إلى مزيد من الفقر. القانون أيضًا لا يحمي الفقراء بل يعاقبهم على كونهم كذلك، فبين جدران السجون سجينات حكم عليهن بسبب ديون صغيرة جدًا، وقد نشر موقع BBC تقريرًا أعده وليد بدرانبي في 8 مارس الجاري بعنوان "غارمات مصر: أحزان وراء القضبان" وجاء في التقرير قصصًا محزنة عن سجينات الفقر اللواتي يقبعن خلف الجدران بسبب فقرهن، ومن ضمن القصص التي ذكرها التقرير قصة "هالة" البالغة من العمر 63 عامًا، أرملة ولديها ستة أبناء، وهي متهمة بقضية إيصالات أمانة ومحكوم عليها بالسجن لمدة عامين، وهي أم مصرية بلا عائل ولا مصدر رزق، سعت لتجهيز إحدى بناتها للزواج، فكانت توقع على إيصالات أمانة وكان الضامن ابنها "أ" البالغ من العمر 28 سنة. لكن مع ضيق الظروف المعيشية، تعثرت فى سداد الأقساط فتراكمت عليها، فتقدم الدائن بشكوى ضدها هى وابنها، وحُكم عليها بالسجن عامين، وكانت قيمة الدين 5500 جنيه مصري. كما ذكر التقرير قصة نادية التي صدر حكمًا ضدها بالسجن لمدة 16 عاما، لاستدانتها لإجراء عملية جراحية في عين ابنها لكن بفضل تدخل جمعية رعاية أطفال السجينات خرجت بعد ستة أشهر فقط في السجن".

وهناك ملايين القصص التي لن نسمع عنها، ولن يخطر على بال أحدهم أنها قد تحدث، لكنها للأسف تحدث.

 
التعامل مع الفقراء على أنهم خطر يجب القضاء عليه، أسلوب حيواني بحت.
 

إن التعامل مع الفقراء على أنهم خطر يجب القضاء عليه، أسلوب حيواني بحت، فالأولى القضاء على على الفقر نفسه، الأولى محاكمة من سرق الوطن لا من سرق الشوكولاتة؛ وانتشار الفقر مرتبط ارتباط وثيق بانتشار الفساد، ولكن الواقع أن من يحارب الفساد هنا يسجن ويعزل من منصبه ولنا في المستشار هشام جنينة عبرة.

***
في إيطاليا قضت المحكمة العليا بأن سرقة الطعام لا يعتبر جريمة إذا كنت بحاجة ماسة إليه، وكان هذا الحكم في قضية رجل  أوكراني يعيش فى ظروف صعبة بمدينة جنوا الشمالية فى 2011 عندما قبض عليه وهو يسرق بعض الجبن والسجق بقيمة 4.07 يورو من أحد متاجر الأطعمة.

وقالت المحكمة فى نص حكمها "حالة المتهم والظروف التى حصل بها على البضائع تظهر أنه سرق القليل من الطعام الذي يحتاجه لتلبية حاجته الملحة والضرورية للتغذية."

إن فكرة التعاطف مع إنسان لأنه "كيوت" وشكله حلو، فكرة طبقية حقيرة، فالعقل يقتضي التعاطف مع الإنسان لكونه "إنسان" فقط. وما نحتاجه في بلادنا تجاه الفقراء قليل من العدل والإنصاف، وقليل من أفعال البشر العادية.

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة