تنحى مبارك، ولم يتنحَ القمع، تم إسقاطه أو إسقاط الثورة، سلم مبارك السلطة للمجلس العسكري ليكمل المجلس المسيرة المباركية في الحكم بالنار والحديد، وقع الثوار في الفخ، والآن يحاكمون ويعاقبون على ثورتهم. قل ما شئت، فكلها أمور قد تبدو صحيحة، وسخيفة أيضًا، ولكن ما ليس منطقيًا أن تردد ما تحاول وسائل الإعلام بثه من جديد بين الناس، وتقول بغير فهم:
ولا يوم من أيامك يا مبارك.
الدرس الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ هو أننا لا نتعلم من التاريخ، هكذا قال الفيلسوف هيجل.
ولأن آفة حارتنا النسيان كما قال نجيب محفوظ، ولأن بيننا الآن من كان عمرهم لحظة تنحي مبارك 10 سنوات، ولكنهم الآن نضجوا، ولأن التاريخ يزيف، والناس «العرب» ينسون دائمًا، فعلينا أن نتذكر أو نعلم بعض ما كان يجري في عهد مبارك وبعض مشاريعه.
أفلا تتذكرون؟
في عهد مبارك تم
منح رجال الأعمال المقربين من نظامه غالبية أراضي طريق القاهرة-الإسكندرية الصحراوي، وأراضي توشكى والعوينات، وأراضي شمال غرب خليج السويس، وأراضي المدن الجديدة، وأراضي الحزام الأخضر حول مدينة 6 أكتوبر، وغيرها من الأراضي والمناطق بأوامر من مبارك نفسه وبأسعار لا تشتري علبة سجائر من النوع الرديء، فلتقرأ معي جزءًا من خبر نشر في صحيفة روزاليوسف في مايو 2012 يقول:
وضعت شركة سوزي لاند يدها على مساحة 398 فدانًا بالكيلو 52 غرب طريق مصر الإسكندرية الصحراوي، حيث تم تحرير 7 عقود بيع ابتدائية بإجمالي المساحة باسم سمعان أسعد وآخرين خلال الفترة من 4 سبتمبر 1991 حتى 26 أغسطس 2001، والذي تنازل عنها لصالح شركة سوزي لاند وعندما عاينت هيئة التعمير والتنمية الزراعية الأرض في 29 أغسطس 2007 أثبتت أن إجمالي المساحة مزروعة محاصيل بستانية مثمرة بنظام الري بالتنقيط ومصدر الري جوفي، وفي 11 مايو 2008 تم تحرير عقد بيع ابتدائي للشركة على أساس سعر الفدان 200 جنيه ومساحة 9217 متر مباني بسعر 3 جنيهات للمتر.
نعم كان متر أرض وسعره 3 جنيهات، ولم يكن سعر متر قماش بفتة.
سبتمبر 1998: تم بيع 100 ألف فدان بمشروع توشكى للوليد بن طلال بسعر 50 جنيهًا للفدان، وللعلم كان نصيب كل فدان في توشكى قد تم تمويله من أموال الشعب بنحو 11 ألف جنيه؛ كما أُعفي الوليد بن طلال من جميع الضرائب والرسوم والأتعاب لمدة 20 عامًا.
بعام 2006: أشارت الإحصائيات إلى إصابة 20% من الشعب بالتهاب كبدي، كما سجلت مصر أعلى نسبة شلل أطفال في العالم، وأصيب نحو 20 مليون مواطن بمرض الاكتئاب، وسجل التلوث أعلى نسبة في العالم، ووصل عدد المنتحرين سنويًا 3 آلاف شاب، وبلغت حصيلة حوادث الطرق نحو 6 آلاف قتيل سنويًا.
ديسمبر 2007: صدر تقرير من منظمة الصحة العالمية يؤكد أن مصر ثالث دولة في العالم كأكبر سوق لتجارة الأعضاء البشرية.
بعام 2009: وصلت مصر إلى المركز 115 في البلاد الأكثر فسادًا من أصل 180 دولة في العالم، بحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية، لتصبح الدولة العربية الأولى في الفساد.
مارس 2010: ذكر تقرير لـ«مركز الأرض لحقوق الإنسان»بأن أكثر من 39 مليار جنيه أهدرت في الآونة الأخيرة على حساب خزانة الدولة بسبب الفساد المالي والإداري في الحكومة المصرية، بالإضافة إلى خسائر قدّرت بحوالي 231 مليون دولار في 2009 بسبب تصدير الغاز الطبيعي إلى إسرائيل بأسعار زهيدة.
مارس 2010: حذر تقرير لوزارة التجارة الأميركية الشركات الأميركية ورجال الأعمال من انتشار الفساد في الحكومة المصرية، مطالبًا إياهم بالقيام بتحريات عن شركائهم قبل استثمار أموالهم هناك.
في منتصف الـ90: حدثت حالات هروب جماعية لرجال أعمال، وطبقًا لوزارة الاقتصاد عام 2000م فإن جملة ما منحته البنوك من قروض يصل إلى 207 مليار دولار، منها حوالي 20 مليارًا تعثّر أصحابها في سدادها بنسبة 6% تقريبًا، وقد أكدت دراسةٌ للدكتورة سلوى العنتري -مدير البحوث بالبنك الأهلي المصري- أن القطاع الخاص يحصل على 52% من القروض بلا ضمانات من الجهاز المصرفي.
ديسمبر 2007: صدر تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية ليؤكد أن 1% من الأغنياء يسيطرون على نصف الثروات، وأن نسبة الفقراء في البلاد تصل إلى ما يقرب من 55% من الشعب المصري.
بعام 2011: صدر تقرير حكومي جاء فيه أن 20 % من المصريين يعيشون تحت خط الفقر، و 1.5 مليون طفل مصري يعانون الحرمان من الغذاء، وأن نسبة الأطفال الذين يعيشون تحت وطأة الفقر استقرت عند 24 %، هذا تقرير حكومي.
الغاز والذهب والحجر لغير المصريين بأسعار زهيدة
في عهد مبارك كان الكيان الصهيوني يشتري الغاز من مصر بنحو 10% من سعره العالمي، وفي 30 يونيو 2005 بدا المشهد مضحكًا مبكيًا، فظهر وزير البترول المصري سامح فهمي، ووزير البنية التحتية الإسرائيلي في لقاء على الهواء مباشرة، ليصافحا بعضهما بحرارة، وفي الخلفية تصفيق حاد. لماذا؟؛ لاتفاقية تمت بين مصر وإسرائيل تقتضي تصدير مصر 1.7 مليار متر مكعب سنويًا من الغاز لإسرائيل ولمدة 20 عامًا، بثمن بخس دولارات معدودة، تراوح بين 70 سنتًا و1.5 دولار للمليون وحدة حرارية.
بينما كان سعر التكلفة التي تتحملها مصر من استخراج الغاز وتصديره 2.65 دولار؛ أي أن مصر كانت تبيع الغاز للكيان الصهيوني بأقل من التكلفة، بينما يقف المواطنون في الطوابير ويقتلون بعضهم بعضًا من أجل الحصول على أسطوانة غاز واحدة. بالمناسبة حصل الكيان الصهيوني حينها على إعفاء ضريبي من الحكومة المصرية لمدة 3 سنوات.
كانت شركة سنتامين الأسترالية السعودية تحصل على 97% من إيرادات الذهب المنتج من منجم السكري، ويتبقى لنا 3% فقط، بالطبع مكانهم معروف «في جيوب نظام مبارك».
من أغرب وقائع الفساد في عهد مبارك أن هناك موارد كانت تباع وفقًا لأسعار تم تحديدها عام 1956، فظلت أسعار طن الحجر الجيري قرشين، وطن الجرانيت عشرين قرشا، بالإضافة إلى رسوم ضئيلة تحصلها الجهات السيادية.
نظام فاسد
والدم كذلك
بين عامي 2005-2008 حصلت شركة يملكها رجل الأعمال هاني سرور على مناقصة لا تعنيها لتوريد أكياس الدم لوزارة الصحة المصرية، ولم تكن الشركة تورد لوزارة الصحة إلا الدم الفاسد؛ وكشفت النيابة في تحقيقها عن وجود ميكروبات وفطر عفن داكن داخل «أكياس الدم» وانبعاث رائحة كريهة منها تؤدي إلى تسمم المرضى ووفاتهم.
كما كشفت عن وجود عيوبٍ فنيةٍ في الأكياس الموردة؛ مما يؤدي إلى تعرض المتبرعين للإغماء لزيادة معدل تدفق الدم عن المعدل الطبيعي وحدوث تجلطات بالدم وتعرّض أكياس الدم للانفجار أثناء فصل مكونات الدم.
جرائم الخصخصة
- شركة بيبسي كولا: كانت شركة حكومية رابحة، اشتراها محمد نصير الذي عمل سابقًا في المخابرات العامة، وهو أحد الرجال المقربين من مبارك، بثمن بخس. كان للشركة 8 مصانع و 18 خط إنتاج وأعداد هائلة من السيارات وأراضٍ متعددة منها قطعة أرض كبيرة على شارع الهرم مباشرة يبلغ ثمنها حينها نحو 155 مليون جنيه.
اشتراها رجل المخابرات وشريكه السعودي بمبلغ 157 مليون جنيها، وبعد فترة قصيرة قام نصير ببيع نصيبه بمبلغ 400 مليون دولار. (دولار وليس جنيه).
- شركة المراجل البخارية: أٌنشئت الشركة على مساحة 32 فدانًا على النيل مباشرة، وكانت تنتج في ستينات القرن الماضي دروعًا للدبابات المصرية، وفي مرحلة لاحقة كانت تنتج معدات المحطات الكهربائية التي نجح الخبراء المصريون في تصنيعها محليًا، وتعد الشركة من أهم ثلاث شركات في العالم الثالث في هذا المجال ولا يوجد مثيل لها في منطقة الشرق الأوسط إلا في إسرائيل.
تصدى العاملون في الشركة لبيعها؛ لأن الشركة كانت تحقق أرباحًا ولديها عقود إنتاجية من عدة دول بلغت 600 مليون جنيه، ولكن النظام قام بإجراء توسعات كبيرة بالشركة، وأخذت قرضًا بنكيًا كبيرًا وقصير الأجل وبفائدة قدرها 24% بهدف «تركيع» الشركة ووضع العاملين أمام الأمر الواقع، وبيعت الشركة بمبلغ 15 مليون دولار في عام 1994 بينما يبلغ ثمن الأرض فقط نحو ملياري جنيه، وخفضت العمالة من 1189 إلى 270 عاملاً.
ومن الإهمال ما قتل
في عهد مبارك وصل الإهمال مداه، ففي حادثة قطار واحدة في 20 فبراير 2002، قتل 350 مواطنًا في طريقهم إلى أسوان لقضاء أجازة عيد الأضحى بين أهاليهم.
في 17 أكتوبر 2005: غرقت عبارة «السلام 98»، في البحر الأحمر بعد اصطدام الشاحنة المُسجّلة في قبرص بها؛ ما أسفر عن عشرات القتلى والمصابين، وغرقت العبّارة في ثلاث دقائق ونصف.
في 2 فبراير 2006: غرقت عبّارة السلام 98، وهي في طريقها من ضبا السعودية، إلى سفاجا المصرية، وكانت السفينة تحمل 1312 مسافرًا و98 من طاقم السفينة.
في مطلع سبتمبر 2008: سقطت كتل صخرية على سكان منطقة «الدويقة» أدت إلى مصرع عشرات المواطنين، وفقدان (المئات) تحت الأنقاض، في واحدة من أكبر الكوارث التي شهدتها مصر في المناطق السكنية العشوائية.
سلام دافئ مع إسرائيل ومحاصرة فلسطين
في 2009: بدأت مصر في بناء الجدار الفولاذي تحت الأرض على طول حدود مصر مع قطاع غزة، بمساعدة أمريكية إسرائيلية، ولما قوبل المشروع برفض شعبي أنكرت الحكومة بناء الجدار، وتراجعت عن إنكارها بعد نشر الصحف الإسرائيلية تقارير عن الجدار.
بالمناسبة كان موقف الأزهر حينها يدعو للفخر، فقد أفتى عدد من شيوخ الأزهر وعلماء الدين المصريين بحرمة بناء الجدار الذي يخنق القطاع.
غزو العراق
في مذكراته التي تحمل عنوان «لحظات حاسمة»، كتب بوش أن مبارك أبلغ قائد القوات الأميركية الجنرال تومي فرانكس أن:
العراق يملك أسلحة جرثومية وقرر استخدامها ضد قواتنا.
وأضاف بوش أن مبارك رفض إعلان هذه الاتهامات «خشية استفزاز الشارع العربي».
بعض وقائع التعذيب الممنهج
فى أحد تقاريرها، رصدت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان 460 حالة تعذيب في عهد مبارك، خلال الفترة من 1993 إلى 2009، تسببت في وفاة 167 شخصًا، مشيرة إلى أن عام 2008 شهد أكبر عدد من الحالات، مقارنة ببقية الأعوام التي شهدت أرقامًا مختلفة.
بينما قالت جمعية حقوق الإنسان لمساعدة السجناء أن هناك تشابهًا بالفعل بين ما يجري في السجون المصرية وما يجري في سجن أبو غريب العراقي. وفي دراسة أجرتها الجمعية على 1124 شخصًا تعرضوا للتعذيب في عام 2004 كشفت عن أنهم تعرضوا لـ 70 لونًا من ألوان التعذيب؛ شملت الضرب، والجلد، والركل، والصعق بالكهرباء، والإيذاء الجنسي، ومنع الأكل والشرب، وإطفاء السجائر في أجساد المسجونين وكيهم بالنار.
وفي تصريح للدكتورة سوزان فياض من مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف، بتاريخ يونيو 2004 أشارت إلى الصعوبة التي يلاقيها العاملون بالمركز في إقناع الضحايا بأي تفسير منطقي لأسباب التعذيب الذي تعرضوا له، خاصة أن كل الضحايا الذين أتوا للمركز لم يكونوا من عتاة المجرمين أو القتلة أو تجار المخدرات.
ولفتت إلى أن هناك إصابات جسدية يعاني منها ضحايا التعذيب بشكل أدى إلى تدمير مستقبلهم تمامًا، مدللة من واقع الحالات التي استقبلها أطباء المركز وجود 40 حالة قطع في الضفيرة العصبية للضحايا؛ نتيجة التعليق بما يؤدي إلى أن يصبح الضحية مشلولاً جسديًا، بجانب الإهانة النفسية العنيفة التي يتعرض لها الضحية وتؤدي إلى اهتزاز ثقته بنفسه وتحويله إلى شخص جبان، مشيرة إلى أن هذه الآثار تتضاعف عندما يكون الشخص بريئًا.
وأوضحت أن فرص تأهيل الضحايا نفسيًا تتضاءل تمامًا عندما لا يجد الضحية وسيلة قانونية للاقتصاص ممن عذبه.
24 فبراير 2007: قام ضابط بضرب المواطن وشتمه وهتك عرضه وأمر أمين الشرطة بتصوير مايحدث في مكتبه؛ حيث تم ضرب المواطن بالعصا على جميع أنحاء جسمه و إجباره على تقبيل الأرض وحذاء الضابط واحتجازه في القسم دون مبرر مع ربطه من قدميه ورجليه و شتمه بألفاظ بذيئة وإدخال العصا في مؤخرته وهتك عرضه.
يونيو 2010: انفجرت قضية تعذيب خالد سعيد حتى الموت على أيدي اثنين من مخبري شرطة قسم سيدي جابر بالإسكندرية، ولعلنا لا ننسى الأكذوبة الكبرى التي شارك فيها الطب الشرعي ووسائل الإعلام المباركية بأن خالد سعيد قد ابتلع لفافة بانجو.
مشاريع البطيخ
واستكمالاً لمسلسل إهدار المال العام أهدر نظام مبارك مليارات في مشاريع لم تكتمل؛ منه على سبيل المثال:
- مشروع حديد أسوان: أهدر فيه نحو 120 مليون جنيه، ثم توقف ونتج عنه حالات بطالة بلغت نحو 3000 فرصة عمل لأهل الجنوب. بالمناسبة لا أحد يعرف حتى الآن مصير هذا المشروع ومصير الأرض ومصير المعدات أو مصير أصحابه.
- شرق التفريعة: مشروع عملاق بدأ تنفيذه عام 1998، على مساحة 220 كم شرق بورسعيد على الطرف الشمالي الغربي لسيناء، توقف المشروع بعد إقالة كمال الجنزوري بعد تكلفة وصلت نحو 600 مليون دولار.
- نقل الوزارات إلى مدينة السادات: بدأ المشروع كفكرة في عهد الرئيس الراحل أنور السادات. وعلى الرغم من انتهاء الحكومة من تنفيذه في مدينة السادات بتكلفة بلغت حوالي 85 مليون جنيه مصري، لا يزال المبنى المجهز لاستقبال الحكومة مهجوًرا حتى الآن دون استغلال حقيقي يعوض الخسائر التي تكبدتها الدولة.
- شركة سيناء للفحم: بدأت الفكرة بإنشاء شركة لاستغلال الفحم الموجود في منجم جبل المغارة، وبالفعل تم إنشاء شركة سميت بشركة سيناء للفحم، ولكن المشروع توقف تمامًا رغم أن تكلفته الاستثمارية بلغت 7.1 مليار جنيه.
ما فات ليس إلا مجرد أمثلة من ملايين الأمثلة، ليس إلا نقطة في بحر من الفساد. ما فات من أمثلة يدعونا للتفكير في أننا قد نكون وصلنا إلى مرحلة أسوأ بكثير من عهد مبارك، ولكن ما يجب أن نلتفت إليه جيدًا أنه علينا ألا نختار بين السيئ والأسوأ، بين الفاسد والأكثر فسادًا، بين القاتل والسفاح. علينا أن نطرح حلولاً بديلة، وألا نتمنى الرجوع للخلف.
ولعل أكثر ما استفدناه من الثورة هو جيل جديد يطمح إلى التغيير، يفقه ما لا يفقهه جنرالات وضباط في الأمن الوطني، يعلم جيدًا أن المعركة بين الحق والباطل، بين الثورة والفساد، بين الإنسانية والغوغائية، بين العدل والظلم، بين الاتباع والتحرر، بين التعليم والجهل، لم تنتهِ بعد.
خسرنا جولات، وما زالت أمامنا أخرى.