عصا الداخلية.. للجميع

متظاهرون في مواجهة الشرطة خلال ثورة يناير/كانون الثاني 2011 (رويترز)

لسماع المقال اضغط هنا


حاولت كثيرًا أن أكتب لكم عن بعض الإيجابيات، ولكني كلما بدأت في مقالٍ ما يتحدث عن العلم، والتاريخ، والحب، والأمل، والتجارب الناجحة التي علينا أن نطبقها في بلادنا، أجد واقعة ما تقتضي إنسانيتي الكتابة عنها.

حاولت أن أكتب لكم كلمات تسرُّ القارئين، ولكن النظام الحالي قد أحال بيني وبين تلك الكلمات بجرائمه التي لو تجاهلناها فستلعننا الأجيال القادمة لأننا أورثناها لهم من دون محاولة منّا بإبعادها عنهم، ولو بالكتابة.

فمن المؤلم جدًا أن تكتب مرارًا وتكرارًا عن الانتهاكات والتعذيب.

"التعذيب" تلك الكلمة اللعينة التي مهما حاولنا الهروب منها سنجدها منتشرة في كل مكان، فالأخبار التي تتحدث عن "التعذيب" في وسائل الإعلام المختلفة تخطى عددها عدد الناخبين في انتخابات مجلس الشعب. وإذا كانت كلمة التعذيب مؤلمة بالنسبة لمن يكتب أو يقرأ، فما بالك بأولئك المُعذّبون أنفسهم؟!

بحثت عن طريقة ما، تجعلني أتخلص من شعوري بالذنب وتجاهل هذا الخبر الذي نشرته منظمة "العفو الدولية" عن طفلًا يدعى "مازن محمد عبد الله" يبلغ من العمر 14 عامًا، تعرض للاغتصاب والتعذيب والصعق بالكهرباء في أعضائه التناسلية، وإدخال عصا في مؤخرته، لإجباره على الاعتراف بالتظاهر بدون تصريح والانتماء لجماعة الإخوان المسلمين. فوجدت أنه ليست هناك طريقة للهروب من الكتابة عن مثل تلك الأمور إلا أن أكون مؤيدًا للسيسي، مبررًا لنظامه، نافيَا لفشل حكومته، داعيًا الشعب أن يكف عن تعذيب الرئيس لأنه لا ينام، منافقًا كهذا، وآفاقًا كذاك، فهؤلاء فقط هم من ينجحون في تجاهل مثل تلك القضايا، لأنهم يعتبرون أن الكتابة فيها خيانة، والدفاع عن المظلومين جريمة في حق الوطن تقتضي الإعدام.
***
إن جهاز الشرطة المصرية على مختلف العصور يدمن انتهاك أعراض المواطنين، فحادثة الطفل "مازن" ليست هي الأولى من نوعها، فإذا بحثنا فى انتهاكات الداخلية القديمة والجديدة، سنجدها حافلة بوقائع اغتصاب وهتك أعراض ووضع العصا في مؤخرة المواطنين.
في 2007 كانت هناك قضية شهيرة لسائق يدعى "عماد الكبير" حيث قد اُغتصب هذا السائق في قسم شرطة بولاق الدكرور، ولكن الفارق الوحيد بين تلك القصة القديمة وقصة "مازن" أن حينها تحركت 41 منظمة حقوقية للتضامن مع السائق، ونظموا تظاهرات حاشدة أمام النقابات المختلفة، كما أن وسائل الإعلام قد اهتمت بالقضية لأنها كانت قضية رأي عام.. أما قضية "مازن" فلأنها صات خبرَا عاديًا متكررًا في هذا التوقيت من حكم السيسي، فلم نجد سوى منظمة العفو الدولية لتتضامن مع الطفل، ولم نجد سوى بعض المواقع الإلكترونية تتداول الخبر.
فكم مرة قرأنا أخبارًا تفيد بوضع عصا في مؤخرة سجين أو اغتصابه بأيدي ضباط الشرطة؟!

مرات عديدة لا حصر لها، أذكركم ببعضها:
* قام ضابط شرطة بقسم المنصورة بإجبار مواطن على تقبيل حذاءه وإدخال العصا في مؤخرته بعدما ربطه من قدميه وأمر أمين الشرطة "محمد فرج" بتصويره عاريًا (2007).

* قال الطفل "عنتر محمد أبو زيد" أن رئيس المباحث محمد مصطفى الضبش. ومخبرًا يدعى منصور و2 من أمناء الشرطة قاموا بضربه وتجريده من ملابسه وهتك عرضه ومنع الطعام عنه لمدة يومين وقاموا بصعقه بالكهرباء لمدة 6 ساعات متواصلة بعد إلقاء الماء على جسده (2007).
* ضابط بقسم أول المنصورة يضع سيخ حديد في مؤخرة مواطن يدعى "عادل عبد السميع" (2008).

* ضباط شرطة بمديرية أمن كفر الشيخ يجبرون 5 متهمين على ممارسة الشذوذ، حيث وردت للنيابة شكاوى من 5 مراهقين اتهموا فيها كل من الملازمين سعد أحمد سعد وفؤاد محمود سعداوي بالتعدي عليهم وهتك عرضهم (2008).

* ذكرت صحيفة "الجارديان" أن ضباط شرطة قسم ثان مدينة نصر اغتصبوا طالب الأزهر "عمر الشويخ" البالغ من العمر 19 عامًا، بعد إلقاء القبض عليه في 24 مارس (2014).

* أمين شرطة يغتصب فتاة معاقة ذهنيًا داخل قسم إمبابة.. الجرائد المصرية (2014).

* تقدمت المواطنة "حورية حسن المتولي" ببلاغ لنيابة رأس البر حمل رقم 1396 لسنة 2014 تتهم فيه أمناء قسم شرطة رأس البر باقتيادها إلى القسم ومحاولة اغتصابها لولا أن حال العذر الشرعي دون ذلك.. مصر العربية (2014).

* خصم شهر من راتب ضابط وضع العصا الكهربائية في مؤخرة متهم، يذكر أن الضابط خصم من راتبه شهرين بسبب تلفيقه قضية آداب لسيدة.. اليوم السابع (2015).
انتشار هذا الجرم الشنيع الذي لا يرتكبه سوى المرضى النفسيين يجعلك تظن أن هناك مادة تُدرس في كلية الشرطة تتحدث عن كيفية وضع العصا في مؤخرة المواطن. وألّا يكونوا قلقين أبدَا من ممارسة تلك الهواية الممتعة بالنسبة لهم، لأن هناك متحدثًا باسم وزارة الداخلية مهمته الدفاع عن جهاز الشرطة أمام وسائل الإعلام ونفي كل جرائمه، وإظهار الضباط على أنهم ملائكة ذي أجنحة لم يخلقون إلا لحماية الشعب من الإرهابيين. وهناك نيابة ستمنع النشر في قضية التعذيب، وقضاء سيحكم بأحكام بسيطة.

والدليل الواضح على أن التعذيب في أقسام الشرطة لا يتم إلا بموافقة النظام، وربما بأوامر النظام نفسه، هو أن ضباط الشرطة المتهمين بالتعذيب لا تتم محاسبتهم بما يقتضيه العدل، فسنجد ضابط شرطة خُصم من راتبه كذا أو نُقل إلى مكان كذا بسبب تعذيب شخص ما، وفي أسوأ الظروف يُحكم على الضباط بـ 5 أعوام سجن ثم يحصل على البراءة في حكم النقض، بينما عوقب القيادي بجماعة الإخوان محمد البلتاجي والمستشار الخضيري بالسجن 15 عامًا لاتهامهم بتعذيب مواطن في ميدان التحرير. وستجد أيضًا أن التظاهر تصل عقوبته أحيانًا إلى مؤبد، حسب كراهية القاضي للمتهم، وقتل 37 سجينًا في سيارة ترحيلات أبو زعبل حكمه 5 أعوام سجن، مساواة بعلاء عبد الفتاح المتهم بالتظاهر.

الواضح أن التعذيب وكسر النفوس مهم جدًا بالنسبة للنظام الحالي لأنه لا يملك للقمع بديلًا، لا يملك مشروعًا يقدمه للناس، ولا برلمانًا يعبرعن آمالهم وطموحاتهم، ولا إعلامًا يتحدث بلسانهم، ولا تعليمًا يرتقي بهم، فالتعذيب هو الحل.

يقول "جون بول سارتر": ليس المقصود من التعذيب انتزاع الاعترافات فقط، ولكن المقصود إذلال الضحية عبر الصرخات والخضوع، وعبر الشعور بأنه حيوان في أعين الجميع، وفي عين الضحية نفسها، فقد تحمل وصمة أبدية تشعرها بأنها أقل قيمة وشأنًا من كونها إنسانًا.

التعذيب الممنهج، وتداول أخباره بشكل دائم حتى يصير من المسلمات التي نتحدث عنها كأننا نتحدث عن أخبار كرة القدم، ليس إلا وسيلة النظام الحالي للبقاء.

يقول المعتقل "إسلام خليل" الذي اختفي قسريًا 122 يومًا، وتعرض للتعذيب بشكل وحشي في إحدى رسائله: "لا تعتادوا حكايات القتل والتعذيب التي صرنا نراها صباحًا ومساءً، ارفضوها واجعلوها أمرًا مستهجنًا وغريبًا؛ حتى لا تفقدوا ما تبقى من إنسانيتكم".

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة