مناظرة رئاسية.. مشهد المسرحية الأخير

رويترز



مع أننا كنا في فبراير، إلا أنها كانت ليلة حارة جدا، وفبراير دائما متقلب، تتقلب أيامه بين المشمسة والممطرة والدافئة والباردة، يقولون في فلسطين "الرجال مثل شباط ما عليهم رباط"، وبهذا المثل جرى تشبيه الرجال بتقلبات وغدر شباط أو فبراير، لكننا مع كل فبراير تبدو علينا المفاجأة من كونه مُتقلبا.

الديمقراطية في بلادنا مثل شباط "متقلبة"، فلا تعاتب حاكما يقمع شعبه بدعوى الحفاظ على الوطن ومحاولة تطبيق الديمقراطية، وإعلاميا لا ينقل سوى صوت السلطة الحاكمة، وأناسا يدفعون الأموال للفقراء كي يشاركوا في مسرحية الانتخابات ليكتمل المشهد الديمقراطي العسكري العبثي. وهذا هو شباط أو فبراير، يأتي بمرشح جديد، لا يعلمه أحد، إلا من تأذوا منه سابقا.
في تلك الليلة اجتمعت جهات أمنية مع رئيس الجمهورية، كان غاضبا جدا بسبب محاولات إقناعه بأن يخوض مناظرة رئاسية على إحدى وسائل الإعلام. كان الغضب يكسو وجه الرئيس، لأنه يعلم أن الجماهير تتشوق إلى رؤيته، لا لأنها تحبه، لكن لأنها تحب أن تضحك على طريقته الساخرة، إنه يعوضهم عن غياب الفن الساخر، وهكذا تأخذ الجماهير خطاباته على محمل الضحك، بينما يأخذها هو على محمل الجد جدا.

الجماهير تضحك إلى حد البكاء على حديث الرئيس، وعلى صمته، وعلى تحركاته، وعلى قراراته، وعلى نظراته، فما بالكم لو كانت مناظرة مع كوميدي آخر لكنه غير معلوم. على كل حال، اقتنع الرئيس أخيرا بإجراء مناظرة، بعدما طمأنوه أن هذا الرجل الذي سيناظره يجعل الجماهير تضحك جدا، ستحمد الجماهير الله على أنه في حياتهم زعيم مثلك.

على شاشة التلفاز التابعة لأجهزة أمنية، ظهر إعلامي شهير تابع لأجهزة أمنية ليعلن للعوام المقموعين من الأجهزة الأمنية؛ أنه "إيمانا من السيد الرئيس، بأن الديمقراطية حق للشعب، وبأن على الشعب أن يختار مصيره (السجن أو القتل)  قرر السيد رئيس الجمهورية إجراء مناظرة رئاسية نارية، وعليكم أن تجهزوا أطباق المهلبية، وإن الرئيس كرم الله وجهه، سيجيب عن كل الأسئلة التي سألتموها، والتي لم تسألوها".
ظل الإعلامي طوال حلقته يتحدث عن عظمة الرئيس التي تخطت عظمة جيفارا، وصبره الذي تخطى صبر غاندي، وغضبه الذي يخشاه الأعداء، وذكاءه الذي تخطى ذكاء أينشتاين، وأدبه الذي تخطى أدب دوستويفسكي، وخفة دمه التي تخطت خفة دم عزيز نيسين، وفلسفته التي تخطت فلسفة أوليفر ساكس، وألبير كامو، وآرثر شوبنهاور، وإريك هوفر.. لكن الإعلامي نسي أن يذكر اسم المرشح الآخر، مع أن الحلقة تخطى عدد ساعتها الأربع.

قبل أن تبدأ الحلقة، قابل المرشح المجهول رئيس الجمهورية، وعندما رآه اغرورقت عيناه من الدمع، وظل يقبل رأس الرئيس وخده الأيمن والأيسر، ويردد قائلا "كلنا فداك يا ريس" لا تصدق أنني منافس لك، إنهم يوقعون بيننا، وأشار إلى الإعلامي الشهير، لكن الإعلامي الشهير حاول أن يوضح موقفه قائلا "لقد اتصلوا بي من جهة أمنية، وأخبروني أن سيادتك تريد إجراء مناظرة رئاسية" لكن الرئيس اكتفى بهز رأسه راضيا، وهو ما جعل المرشح يفرح ويحصل على بعض الهدوء.
لم يتبق على اكتمال المسرحية الانتخابية سوى مشهد واحد، وهو المناظرة الصحفية، وها قد بدأت المناظرة:

السؤال الأول:
هل تشجع المواطنين على حب الديمقراطية؟
قال الرئيس: إنه يتمنى أن يحب الجميع الديمقراطية، وأن يطلقوا اسمها على أسماء أولادهم، وليكن لدينا شارع اسمه "شارع الديمقراطية"، وسوبر ماركت الديمقراطية، وحلواني الديمقراطية، ومخبز الديمقراطية، فليحدث كل هذا، أما عن تطبيقها في البلاد، فهذه مسألة أخرى.

تحطم زجاج الأستديو من فرط التصفيق، الجماهير تصفق كلما ضحك الرئيس، أو غضب، أو تفوه بكلمات غير مفهومة، حتى أن أحد الجماهير عرض يداه على الطبيب، فقال له إن الحل الوحيد بترها نظرا لأنها تورمت من فرط التطبيل أو التصفيق.

نظر الإعلامي إلى المرشح المجهول موجها له السؤال ذاته، لكن المرشح تعرق، وارتبك، ويبدو أن لسانه عجز عن الكلام، ما جعل مخرج البرنامج، وهو أمين شرطة سابق، يأمر بالخروج لفاصل إعلاني. بالمناسبة، كان الفاصل الإعلاني عبارة عن دعايا للسيد الرئيس وإعطائه تفويضا جديدا ضد الإرهاب، لمحاربة قوى الشر والظلام والنكسة والنكبة والربكة.

بعد انتهاء الإعلان، حان دور المرشح مجددا، وقال: أما أنا فدائما لا أؤمن بدولة يقودها رجل مدني، وأعلم جيدا أن مصر لا يمكن حكمها إلا برجل عسكري، حصل على رتبة الجنرال حتى لو لم يحارب، و.... قاطعه الإعلامي، وأخبره ألا يطيل حتى يعطي الفرصة لسيادة الرئيس، فهز المرشح رأسه موافقا.

السؤال الثاني كان حول سياسة المرشح أمام المظاهرات؟
قال الرئيس: لن أسمح بحدوث ذلك، "أنتم شكلكم متعرفونيش"، الدولة لا تحتمل مظاهرة، ولا تحتمل أن يتحدث مخلوق، وأنا أحذر.
قال المرشح: الرئيس لن يسمح.

السؤال الثالث: ما خطتك للنهوض بالبلاد؟
اللي هيقرب منها هنفسه، وهقول للمصريين ينزلوا يعملوا لي تفويض ثاني، بس كبير شوية.
قال المرشح: هذه الدولة لن تنهض إلا بالحكم العسكري بالنار والحديد، وأتمنى ألا يحبسوني بعد الفاصل.
بعد أن انتهت الحلقة، التف حول الرئيس رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ليأخذوا معه صورة "سيلفي"، وفي الخلفية مشهد مليء بالنيران والدخان.

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة