en.Kremlin / CC BY 4.0 |
عندما صعد الشاب الفرنسي الوسيم ذو الـ 39 عامًا على خشبة المسرح،
ممسكًا بيد زوجته الشقراء، بريجيت التي تكبره بـ 24 عامًا، احتلت صورتهما أغلفة
المجلات والصحف الفرنسية، وتسابقت الصحف العالمية على نشر مزيد من الأخبار عن
إيمانويل ماكرون وزوجته. انتشرت قصة حب ماكرون وبريجيت ترونيو على وسائل التواصل
الاجتماعي. تلك القصة التي تعود إلى عام 1993 عندما كان ماكرون مراهقًا في الخامسة
عشرة من عمره، ويدرس المسرح في مدينة أميان بشمال فرنسا. هناك تعرف على معلمته
بريجيت، وكان عمرها 39 عامًا ولديها ثلاثة أطفال، ظنت عائلته أنه يحب ابنة
المعلمة، لكنهم علموا بعد ذلك أنه يواعد المعلمة ذاتها، ورغم أن عائلة ماكرون
نقلته إلى مدرسة في باريس، فإن ماكرون لم يهدأ له بال، وأصر على الزواج منها،
وتزوجا بالفعل عام 2007. في هذا العام كان عمره 30 عامًا بينما هي قد تجاوزت الـ
54 من عمرها.
تحول الرجل في عام واحد من شخصية مغمورة إلى زعيم دولة هي الخامسة على العالم اقتصاديًّا، وقبل الانتخابات بعام كان قد أطلق حملة سياسية بعنوان «إلى الأمام» تحمل شعارات «لا يمين ولا
يسار»، كان حينها وزيرًا للاقتصاد، ولما أعلن ترشحه كانت التوقعات بفوزه ضئيلة جدًّا، لأنه لم يخض تجربة انتخابية سابقة، ولم يكن لديه خبرة حزبية، لكن ما حدث أنه بالفعل صار رئيسًا لفرنسا.
سرعان ما تبخرت كل هذه القصص المُهلمة، التي لن تُطعم فقيرًا من سكان أفقر أحياء فرنسا في مدينة مرسيليا جنوبي البلاد، هؤلاء المُهملون من جانب دولتهم بسبب حرمانهم من فرص العمل والخدمات العامة، هذه المدينة التي يعيش أكثر من 50% من سكانها تحت خط الفقر، والتي يبلغ عدد سكانها 850 ألف نسمة.
الخروج في حالات الطوارئ
Youtube |
"الموت لماكرون، الموت للحكومة، الموت للضرائب"
هذه شعارات رفعتها جماهير فرنسية غاضبة ضد سياسات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الآونة الأخيرة، هتافات تقضي على كل قصص الشهرة والحب التي عشناها مع الرئيس الصغير. الآن حان وقت الغضب؛ حراك في الشارع الفرنسي، بدأ باحتجاجات عمالية صغيرة، ثم مظاهرات طلابية، ثم غضب عارم متمثلًا في حركة اجتماعية تدعى «السُّترات الصفراء» يرتدي فيها المتظاهرون
سُترات صفراء عاكسة للضوء، واستوحى المتظاهرون اسم الحركة من قانون فرنسي دخل حيّز
التنفيذ في عام 2008، يوصي قائدي السيارات بحمل سترات صفراء وارتدائها عند الخروج
على الطريق في حالات الطوارئ.
أغلق المتظاهرون الطرق السريعة والمطارات والمحطات، وعرقلوا الوصول إلى مُستودعات الوقود ومراكز التسوق وبعض المصانع، ووصل أعداد المشاركين في المظاهرات إلى نحو 300 ألف متظاهر. بحسب بيانات وزارة الداخلية الفرنسية، جرت تظاهرات في أكثر من ألفي مدينة وقرية في جميع
أنحاء البلاد، واحتُجِز 282 مُتظاهرًا.
كانت الاحتجاجات في بداية شرارتها تعارض ارتفاع أسعار الوقود بنسبة بلغت نحو 23% على مدى 12 شهرًا، لكن تطورت حتى ظهرت مطالبات بإسقاط الرئيس الفرنسي وحكومته. وللحركة غير السياسية شعبية واسعة، يدعمها اليسار واليمين، واليمين المتطرف.
اكتفت الحكومة الفرنسية في البداية بالصمت، وتزايد أعداد المتظاهرين أجبر رئيس الوزراء، إدوار فيليب، على الكلام، لكنه أعلن بكل إصرار أن الحكومة لن تتراجع عن زيادة الضرائب على الوقود.
بعدها حاولت الحكومة إقناع المواطنين بأن الرسوم على الوقود ستُرفع للضرورة البيئية، وبدلًا من أن يحاول ماكرون تهدئة الأجواء ضاعف غضب الشارع الفرنسي، إذ أعلن أن الحكومة لن تتراجع، وأشار ماكرون إلى وجود ضرورة لفرض مزيد من الضرائب على الوقود الأحفوري لتمويل الاستثمارات في مجال الطاقة المتجددة!
لماذا تراجعت شعبية ماكرون؟
يُنظر إلى ماكرون حاليًا على أنه «رئيس الأغنياء فقط» ولا يعنيه أمر الفقراء؛ لقد انتهج ماكرون سياسة نيوليبرالية تعتبر المواطن مجرد مستهلك لا حقوق له سوى ما يدفع ثمنه، تستهدف خصخصة
الخدمات العامة، وتنظر إلى النقابات المهنية على أنها مجرد عرقلات في طريق ما أسماه إصلاحًا. انتهج سياسة لا تعرف سوى لغة المصالح ولا تهتم لشأن حياة ملايين البشر، فعندما سُئل مثلًا عن علاقته ببشار الأسد، قال بكل ببساطة: «الأسد عدو للشعب السوري، لكنه ليس عدوًا لفرنسا»، لقد قال هذا بزعم محاربته الإرهاب، وتناسى عشرات الآلاف من القتلى والمهجرين والمدمرة بيوتهم من السوريين، ضحايا بشار الأسد.
سياسة ماكرون التي لا تعير الإنسان اهتمامًا ولا تفعل إلا ما يفيد منظومة الحكم جعلته يُخفّض الضرائب على الشركات الكبرى بمقدار 10 مليارات يورو، ويخطط لأن تصل التخفيضات الضريبة على الشركات الكبرى إلى 25% بحلول عام 2022، وهو انخفاض كبير عن مستواها الحالي البالغ
33%، وهو ما دفع الصحافة إلى أن تطلق عليه «بطل الأغنياء»، كما أنه يحاول منذ فترة إدخال تعديلات على قانون العمل من شأنها وضع سقف لقيمة العُطلات وقيمة التعويضات جراء الفصل التعسفي، والسماح للمجموعات التي لا يُعتبر نشاطها مربحًا في فرنسا بتسريح الموظفين حتى لو كانت هذه الشركات مزدهرة في العالم، ووضع عقود عمل جديدة تتيح الفصل في نهاية مهمة محددة، وخفض المساعدات الشخصية للسكن، وتجميد مؤشر احتساب أجور العاملين في الوظيفة العامة، وتقليص أعداد الموظفين، وأدى هذا القانون إلى احتجاج النقابات العمالية والمتقاعدين والطلبة،لكن أحدًا لم يستجب لهم، وادّعى ماكرون أن تعديل القانون هدفه محاربة البطالة وتحسين الأوضاع الاقتصادية.
في الوقت الذي أعلن فيه ماكرون تخفيض الضرائب على كبار الأغنياء أعلن التقشف على الطبقات الفقيرة، فقد قرر التخلص مما يقرب من 1600 وظيفة في الخدمة المدنية، وتخفيض المعاشات التي تمولها الدولة، وتخفيض الإنفاق الحكومي على نظام الرعاية الصحية العامة، ومزايا الإسكان
والنقل، وتجميد مشاريع البنية التحتية الرئيسية.
لم ينس الفرنسيون لماكرون بعد كل هذه الإجراءات أن الرجل دائم الحديث عن التقشف قد أثار جدلًا وتساؤلات عديدة، بعد أن أن كشفت صحيفة فرنسية أن زوجة ماكرون طلبت أطباقًا لمائدة مخصصة للرئاسة الفرنسية قيمتها 500 ألف يورو، وعزم ماكرون على بناء حوض سباحة خاص به وبزوجته بتكلفة نحو 34 ألف يورو في منتجع فورت برجانسون الأشبه بقلعة عسكرية، والذي تتكلف نفقاته السنوية نحو 150 ألف يورو. فأي تقشف وأي إصلاح يريده هذا الرئيس؟
لم تكن السياسة الاقتصادية التي انتهجها ماكرون فقط هي التي تباعد بينه وبين الشعب الفرنسي، فقد أصدر ماكرون قرارًا بشأن تقليل سرعة الحافلات، من 90 كيلومترًا في الساعة إلى 80 كيلومترًا، بهدف تقليل حوادث السير، ما زاد من حالة الغضب لدى قاطني المناطق الريفية، حيث اعتبروه تغييرًا إجباريًا في حياتهم بدلًا من الحلول الجذرية لمشكلة الحوادث.
وكثيرًا ما أظهرت تصريحات ماكرون تعاليًا وعجرفة وعدم استعداد لإصلاح خطأ ما، فمثلًا اعتبر أن «فرنسا ستكون بخير إذا خفف الفرنسيون شكواهم»، ولما اشتكى أحد العاطلين عن العمل للرئيس، أجاب ماكرون: «لا أذهب إلى مكان إلّا ويقولون لي إنهم يبحثون عن موظفين»، وهكذا أنكر ماكرون مشكلة البطالة في تصريح واحد، كما أن الرجل كثيرًا ما وصف المعارضين بالمخربين!
انتهت قصة ماكرون الذي كان يخطف الكاميرات بقصصه الرومانسية، وبدأ الغضب الجماهيري الذي وصل إلى استغلال وجوده في إحدى الفعاليات ليستهدفه البيض كشخص غير مرغوب في وجوده. قد تتكرر محاولات استهدافه بالبيض مجددًا، هذا احتمال قوي، لكن يبدو أن تكرار وصوله لرئاسة فرنسا مجددًا بات الاحتمال الأضعف على الإطلاق، وهذا ما رسمته الجماهير الفرنسية الغاضبة.